فصل: الآية رقم ‏(‏61 ‏:‏ 62‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مختصر ابن كثير **


 سورة النحل

بسم اللّه الرحمن الرحيم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏1‏)‏

‏{‏ أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون ‏}‏

يخبر تعالى عن اقتراب الساعة ودنوها، معبّراً بصيغة الماضي الدال على التحقق والوقوع لا محالة، كقوله‏:‏ ‏{‏اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏اقتربت الساعة وانشق القمر‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فلا تستعجلوه‏}‏ أي قرب ما تباعد فلا تستعجلوه، والضمير يعود على العذاب، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون‏}‏، فإنهم استعجلوا العذاب قبل كونه استبعاداً وتكذيباً، ثم إنه تعالى نزه نفسه عن شركهم به غيره، وعبادتهم معه ما سواه من الأوثان والأنداد، تعالى وتقدس علواً كبيراً، وهؤلاء هم المكذبون بالساعة ‏"‏في اللباب‏:‏ أخرج ابن مردويه‏:‏ لما نزلت ‏{‏أتى أمر الله‏}‏ وغمر أصحاب رسول اللّه حتى نزلت ‏{‏فلا تستعجلوه‏}‏ فسكتوا - وأخرج عبد اللّه بن الإمام أحمد‏:‏ لما نزلت ‏{‏أتى أمر اللّه‏}‏ قاموا، فنزلت‏:‏ ‏{‏فلا تستعجلوه‏}‏‏"‏، فقال‏:‏ ‏{‏سبحانه وتعالى عما يشركون‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏2‏)‏

‏{‏ ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏ينزل الملائكة بالروح‏}‏ أي الوحي كقوله‏:‏ ‏{‏وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏على من يشاء من عباده‏}‏ وهم الأنبياء، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏اللّه أعلم حيث يجعل رسالته‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏اللّه يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏أن أنذروا‏}‏ أي لينذروا ‏{‏أنه لا إله إلا أنا فاتقون‏}‏ أي فاتقوا عقوبتي لمن خالف أمري وعبد غيري‏.‏

 الآية رقم ‏(‏3 ‏:‏ 4‏)‏

‏{‏ خلق السماوات والأرض بالحق تعالى عما يشركون ‏.‏ خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين ‏}

يخبر تعالى عن خلقه العالَم العلوي وهو السماوات، والعالَم السفلي وهو الأرض بما حوت، وأن ذلك مخلوق بالحق لا للعبث بل ‏{‏ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى‏}‏، ثم نزه نفسه عن شرك من عبد معه غيره وهو المستقل بالخلق وحده لا شريك له؛ فلهذا يستحق أن يعبد وحده لا شريك له، ثم نبه على خلق جنس الإنسان ‏{‏من نطفة‏}‏ أي مهينة ضعيفة، فلما استقل ودرج إذا هو يخاصم ربه تعالى ويكذبه ويحارب رسله، وهو إنما خلق ليكون عبداً لا ضداً كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويعبدون من دون اللّه ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا‏}‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين‏}‏‏.‏ وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن بشر بن جحاش قال‏:‏ بصق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في كفه، ثم قال‏:‏ ‏(‏يقول اللّه تعالى‏:‏ ابن آدم‏!‏ أنَّى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه، حتى إذا سويتك فعدلتك مشيت بين برديك وللأرض منك وئيد، فجمعت ومنعت، حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت أتصدق، وأنّى أوان الصدقة‏؟‏‏)‏ ‏"‏رواه الإمام أحمد وابن ماجه في السنن‏"‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏5 ‏:‏ 7‏)‏

‏{‏ والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ‏.‏ ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون ‏.‏ وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤوف رحيم ‏}‏

يمتن تعالى على عباده بما خلق لهم من الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم وبما جعل لهم فيها من المصالح والمنافع من أصوافها وأوبارها وأشعارها يلبسون ويفترشون، ومن ألبانها يشربون، ويأكلون من أولادها وما لهم فيها من الجمال وهو الزينة، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ولكم فيها جمال حين تريحون‏}‏، وهو وقت رجوعها عشياً من المرعى، فإنها تكون أمده خواصر وأعظمه ضروعاً وأعلاه أسنمة، ‏{‏وحين تسرحون‏}‏ أي غدوة حين تبعثونها المرعى، ‏{‏وتحمل أثقالكم‏}‏ وهي الأحمال الثقيلة التي تعجزون عن نقلها وحملها، ‏{‏إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس‏}‏ وذلك في الحج والعمرة والغزو والتجارة وما جرى مجرى ذلك، تستعملونها في أنواع الاستعمال من ركوب وتحميل كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون * ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون‏}‏، ولهذا قال ههنا بعد تعداد هذه النعم‏:‏ ‏{‏إن ربكم لرؤوف رحيم‏}‏ أي ربكم الذي قيض لكم هذه الأنعام وسخرها لكم كقوله‏:‏ ‏{‏وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون‏}‏، قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏لكم فيها دفء‏}‏ أي ثياب، ‏{‏ومنافع‏}‏ ما تنتفعون به من الأطعمة والأشربة، ومنافع نسل كل دابة‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏لكم فيها دفء‏}‏ أي لباس ينسج و‏{‏منافع‏}‏ مركبٌ ولحم ولبن‏.‏ وقال قتادة‏:‏ دفء ومنافع يقول‏:‏ لكم فيها لباس ومنفعة وبُلغة، وكذا قال غير واحد من المفسرين بألفاظ متقاربة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏8‏)‏

‏{‏ والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون ‏}‏

هذا صنف آخر مما خلق تبارك وتعالى لعباده يمتن به عليهم وهو ‏{‏الخيل والبغال والحمير‏}‏ التي جعلها للركوب والزينة بها وذلك أكبر المقاصد منها، ولما فصلها من الأنعام وأفردها بالذكر، استدل من استدل من العلماء ممن ذهب إلى تحريم لحوم الخيل بذلك على ما ذهب إليه فيها، كالإمام أبي حنيفة رحمه اللّه ومن وافقه من الفقهاء بأنه تعالى قرنها بالبغال والحمير، وهي حرام، كما ثبتت به السنّة النبوية، وذهب إليه أكثر العلماء‏.‏ وقد روى الإمام أبو جعفر بن جرير عن ابن عباس‏:‏ أنه كان يكره لحوم الخيل والبغال والحمير، وكان يقول‏:‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون‏}‏ فهذه للأكل، ‏{‏والخيل والبغال والحمير لتركبوها‏}‏ فهذه للركوب، ويستأنس لهذا بحديث رواه الإمام أحمد عن خالد بن الوليد رضي اللّه عنه قال‏:‏ نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير، ولكن لا يقاوم ما ثبت في الصحيحين عن جابر بن عبد اللّه قال‏:‏ نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم الخيل، وعن جابر قال‏:‏ ذبحنا يوم خيبر الخيل والبغال والحمير، فنهانا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن البغال والحمير، ولم ينهنا عن الخيل وكذا قال قتادة والضحّاك ، وفي صحيح مسلم عن أسماء بنت أبي بكر رضي اللّه عنهما قالت‏:‏ نحرنا على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فرساً فأكلناه ونحن بالمدينة فهذه أدل وأقوى وأثبت، وإلى ذلك صار جمهور العلماء مالك والشافعي وأحمد وأصحابهم وأكثر السلف والخلف واللّه أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏9‏)‏

‏{‏ وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين ‏}‏

لما ذكر تعالى في هذه السورة الحيوانات من الأنعام وغيرها التي يركبونها ويبلغون عليها حاجة في صدورهم، وتحمل أثقالهم إلى البلاد والأماكن البعيدة والأسفار الشاقة، شرع في ذكر الطرق التي يسلكها الناس إليه، فبيّن أن الحق منها ما هي موصلة إليه فقال‏:‏ ‏{‏وعلى اللّه قصد السبيل‏}‏، كقوله‏:‏ ‏{‏وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏هذا صراط عليَّ مستقيم‏}‏، قال مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏وعلى اللّه قصد السبيل‏}‏، قال‏:‏ طريق الحق على اللّه‏.‏ وقال السدي‏:‏ ‏{‏وعلى اللّه قصد السبيل‏}‏ الإسلام، وقال ابن عباس‏:‏ وعلى اللّه البيان أي يبين الهدى والضلالة وكذا قال قتادة والضحّاك ‏.‏ وقول مجاهد ههنا أقوى من حيث السياق، لأنه تعالى أخبر أن ثم طرقاً تسلك إليه، فليس يصل إليه منها إلا طريق الحق، وهي الطريق التي شرعها ورضيها، وما عداها مسدودة والأعمال فيها مردودة، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومنها جائر‏}‏ أي حائد مائل زائل عن الحق‏.‏ قال ابن عباس وغيره‏:‏ هي الطرق المختلفة والآراء والأهواء المتفرقة كاليهودية والنصرانية والمجوسية، وقرأ ابن مسعود‏:‏ ‏{‏منكم جائر‏}‏؛ ثم أخبر تعالى أن ذلك كله كائن عن قدرته ومشيئته فقال‏:‏ ‏{‏ولو شاء لهداكم أجمعين‏}‏، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة‏}‏ الآية‏.‏

 الآية رقم ‏(‏10 ‏:‏ 11‏)‏

‏{‏ هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ‏.‏ ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون ‏}‏

لما ذكر تعالى ما أنعم به عليهم من الأنعام والدواب، شرع في ذكر نعمته عليهم في إنزال المطر من السماء - وهو العلو - مما لهم فيه بلغة ومتاع لهم ولأنعامهم فقال‏:‏ ‏{‏لكم منه شراب‏}‏ أي جعله عذباً زلالاً يسوغ لكم شرابه ولم يجعله ملحاً أجاجاً، ‏{‏ومنه شجر فيه تسيمون‏}‏ أي وأخرج لكم منه شجراً ترعون فيه أنعامكم، كما قال ابن عباس وهو قول عكرمة والضحّاك وقتادة وابن زيد ‏:‏ ‏{‏تسيمون‏}‏ أي ترعون ومنه الإبل السائمة، والسوم‏:‏ الرعي‏.‏ روى ابن ماجه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نهى عن السوم قبل طلوع الشمس‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات‏}‏ أي يخرجها من الأرض بهذا الماء الواحد على اختلاف صنوفها وطعومها وألوانها وروائحها وأشكالها، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون‏}‏ أي دلالة وحجة على أنه لا إله إلا اللّه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها‏؟‏ أإله مع اللّه‏؟‏ بل هم قوم يعدلون‏}‏، ثم قال تعالى‏:‏

 الآية رقم ‏(‏12 ‏:‏ 13‏)‏

‏{‏ وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ‏.‏ وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون ‏}‏

ينبّه تعالى عباده على آياته العظام، ومننه الجسام في تسخيره الليل والنهار يتعاقبان، والشمس والقمر يدوران، والنجوم الثوابت والسيارات في أرجاء السماوات‏.‏ نوراً وضياء ليتهدي بها في الظلمات، وكل منها يسير في فلكه الذي جعله اللّه تعالى فيه، يسير بحركة مقدرة لا يزيد عليها ولا ينقص عنها، والجميع تحت قهره وسلطانه وتسخيره وتقديره وتسهيله كقوله‏:‏ ‏{‏والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك اللّه رب العالمين‏}‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون‏}‏ أي لدلالات على قدرته تعالى الباهرة وسلطانه العظيم، لقوم يعقلون عن اللّه ويفهمون حججه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه‏}‏ لما نبه تعالى على معالم السماء نبه على ما خلق في الأرض من الأمور العجيبة والأشياء المختلفة، من الحيوانات والمعادن والنباتات والجمادات، على اختلاف ألوانها وأشكالها وما فيها من المنافع والخواص ‏{‏إن في ذلك لآية لقوم يذكرون‏}‏ أي آلاء اللّه ونعمه فيشكرونها‏.‏

 الآية رقم ‏(‏14 ‏:‏ 18‏)‏

‏{‏ وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ‏.‏ وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون ‏.‏ وعلامات وبالنجم هم يهتدون ‏.‏ أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون ‏.‏ وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم ‏}‏

يخبر تعالى عن تسخيره البحر المتلاطم الأمواج، ويمتن على عباده بتذليله لهم وتيسيرهم للركوب فيه، وما يخلقه فيه من اللالئ والجواهر النفسية، وتسهيله للعباد استخراجهم من قراره حلية يلبسونها، وتسخيره البحر لحمل السفن التي تمخره أي تشقه، وقيل‏:‏ تمخر الرياح وكلاهما صحيح، الذي أرشد العباد إلى صنعتها، وهداهم إلى ذلك إرثاً عن نوح عليه السلام، فإنه أول من ركب السفن، وله كان تعليم صنعتها، ثم أخذها الناس عنه قرناً بعد قرن وجيلاً بعد جيل، يسيرون من قطر إلى قطر، ومن بلد إلى بلد، لجلب ما هناك من الأرزاق، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون‏}‏ أي نعمه وإحسانه؛ ثم ذكر تعالى وما ألقى فيها من الرواسي الشامخات والجبال الراسيات لتقر الأرض ولا تميد، أي تضطرب بما عليها من الحيوانات، فلا يهنأ لهم عيش بسبب ذلك، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏والجبال أرساها‏}‏ وقال الحسن‏:‏ لما خلقت الأرض كانت تميد فقالوا‏:‏ ما هذه بمقرة على ظهرها أحداً، فأصبحوا وقد خلقت الجبال، فلم تدر الملائكة مم خلقت الجبال‏؟‏ وقال سعيد، عن قيس بن عبادة‏:‏ إن اللّه لما خلق الأرض جعلت تمور فقالت الملائكة‏:‏ ما هذه بمقرة على ظهرها أحداً، فأصحبت صبحاً وفيها رواسيها وفي رواية ابن جرير عن علي قال‏:‏ لما خلق اللّه الأرض فمضت وقالت‏:‏ أي ربّ تجعل عليَّ بني آدم يعملون الخطايا ويجعلون عليَّ الخبث‏؟‏ قال‏:‏ فأرسى اللّه فيها من الجبال ما ترون وما لا ترون ‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وأنهارا وسبلا‏}‏ أي جعل فيها أنهاراً تجري من مكان إلى آخر رزقاً للعباد ينبع في موضع، وهو رزق لأهل موضع آخر، فيقطع البقاع والبراري والقفار، ويخترق الجبال والآكان، فيصل إلى البلد الذي سخر لأهله، وهي سائرة في الأرض يمنة ويسرة وجنوباً وشمالاً وشرقاً وغرباً، ما بين صغار وكبار، وأودية تجري حيناً وتنقطع في وقت، وما بين نبع وجمع، وقوي السير وبطيئه بحسب ما أراد وقدّر وسخّر ويسر، فلا إله إلا هو ولا رب سواه، وكذلك جعل فيها ‏{‏سبلا‏}‏ أي طرقاً

يسلك فيها من بلاد إلى بلاد حتى إنه تعالى ليقطع الجبل حتى يكون ما بينهما ممراً ومسلكاً، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وجعلنا فيها فجاجا سبلا‏}‏ الآية‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وعلامات‏}‏ أي دلائل من جبال كبار وآكام صغار ونحو ذلك يستدل بها المسافرون براً وبحراً إذا ضلوا الطرق‏.‏ ‏{‏وبالنجم هم يهتدون‏}‏ أي في ظلام الليل، قاله ابن عباس، ثم نبّه تعالى على عظمته وأنه لا تنبغي العبادة إلا له دون ما سواه من الأوثان التي لا تخلق شيئاً بل هم يخلقون، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏أفمن يخلق كمن لا يخلق‏؟‏ أفلا تذكرون‏}‏ ثم نبههم على كثرة نعمه عليهم وإحسانه إليهم فقال‏:‏ ‏{‏وإن تعدوا نعمة اللّه لا تحصوها إن اللّه لغفور رحيم‏}‏ أي يتجاوز عنكم ولو طالبكم بشكر جميع نعمه لعجزتم عن القيام بذلك، ولو أمركم به لضعفتم وتركتم، ولو عذبكم لعذبكم وهو غير ظالم لكم، ولكنه غفور رحيم يغفر الكثير ويجازي على اليسير‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ يقول‏:‏ إن اللّه لغفور لما كان منكم من تقصير في شكر بعض ذلك إذا تبتم وأنبتم إلى طاعته واتباع مرضاته، رحيم بكم لا يعذبكم بعد الإنابة والتوبة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏19 ‏:‏ 21‏)‏

‏{‏ والله يعلم ما تسرون وما تعلنون ‏.‏ والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ‏.‏ أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون ‏}‏

يخبر تعالى أنه يعلم الضمائر والسرائر كما يعلم الظواهر، وسيجزي كل عامل بعمله يوم القيامة إن خيراً فخير وإن شراً فشر، ثم أخبر أن الأصنام التي يدعونها من دون اللّه لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون، كما قال الخليل‏:‏ ‏{‏أتعبدون ما تنحتون‏؟‏ واللّه خلقكم وما تعملون‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏أموات غير أحياء‏}‏ أي هي جمادات لا أرواح فيها فلا تسمع ولا تبصر ولا تعقل ‏{‏وما يشعرون أيان يبعثون‏}‏ أي لا يدرون متى تكون الساعة فكيف يرتجى عند هذه نفع أو ثاب أو جزاء‏؟‏ إنما يرجى ذلك من الذي يعلم كل شيء وهو خالق كل شيء‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 22 ‏:‏ 23‏)‏

‏{‏ إلهكم إله واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون ‏.‏ لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين ‏}‏

يخبر تعالى أنه لا إله إلا هو الواحد الأحد الفرد الصمد، وأخبر أن الكافرين تنكر قلوبهم ذلك كما أخبر عنهم متعجبين من ذلك‏:‏ ‏{‏أجعل الآلهة إلها واحد‏؟‏ إن هذا لشيء عجاب‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا ذكر اللّه وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وهم مستكبرون‏}‏ أي عن عبادة اللّه مع إنكار قلوبهم التوحيد‏.‏ كما قال‏:‏ ‏{‏إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين‏}‏، ولهذا قال ههنا‏:‏ ‏{‏لا جرم‏}‏ أي حقاً، ‏{‏أن اللّه يعلم ما يسرون وما يعلنون‏}‏ أي وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء ‏{‏إنه لا يحب المستكبرين‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏24 ‏:‏ 25‏)‏

‏{‏ وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين ‏.‏ ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ وإذا قيل لهؤلاء المكذبين ‏{‏ماذا أنزل ربكم قالوا‏}‏ معرضين عن الجواب ‏{‏أساطير الأولين‏}‏ أي لم ينزل شيئاً إنما هذا الذي تتلى علينا أساطير الأولين، أي مأخوذ من كتب المتقدمين، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا‏}‏

أي يفترون على الرسول ويقولون أقوالاً متضادة مختلفة كلها باطلة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا‏}‏ وذلك أن كل من خرج عن الحق فمهما قال أخطأ، وكانوا يقولون‏:‏ ساحر وشاعر وكاهن ومجنون، ثم استقر أمرهم إلى ما اختلقه لهم شيخهم المسمى بالوليد بن المغيرة لما ‏{‏فكر وقدر، فقتل كيف قدر، ثم قتل كيف قدر، ثم نظر، ثم عبس وبسر، ثم أدبر واستكبر، فقال إن هذا إلا سحر يؤثر‏}‏ أي ينفل، ويحكى‏:‏ فتفرقوا عن قوله ورأيه قبحهم اللّه، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم‏}‏، أي إنما قدرنا عليهم أن يقولوا ذلك ليتحملوا أوزارهم ومن أوزار الذين يتبعونهم

ووافقونهم، أي يصير عليهم خطيئة ضلالهم في أنفسهم، وخطيئة إغوائهم لغيرهم واقتداء أولئك بهم، كما جاء في الحديث‏:‏ ‏(‏من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً‏)‏، روى العوفي عن ابن عباس في الآية‏:‏ ‏{‏ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم‏}‏ إنها كقوله‏:‏ ‏{‏وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم‏}‏، وقال مجاهد‏:‏ يحملون أثقالهم، ذنوبهم وذنوب من أطاعهم، ولا يخفف عمن أطاعهم من العذاب شيئاً‏.‏

 الآية رقم ‏(‏26 ‏:‏ 27‏)‏

‏{‏ قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ‏.‏ ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم قال الذين أوتوا العلم إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين ‏}‏

قال ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏قد مكر الذين من قبلهم‏}‏ قال‏:‏ هو النمروذ الذي بنى الصرح؛ وقال زيد بن أسلم‏:‏ أول جبار كان النمروذ، وقال آخرون‏:‏ بل هو بختنصر، وقال آخرون‏:‏ هذا من المثل لأبطال ما صنعه هؤلاء الذين كفروا باللّه وأشركوا في عبادته غيره، كما قال نوح عليه السلام‏:‏ ‏{‏ومكروا مكرا كبار‏}‏ أي احتالوا في إضلال الناس بكل حيلة وأمالوهم إلى شركهم بكل وسيلة كما يقول لهم أتباعهم يوم القيامة، ‏{‏بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر باللّه ونجعل له أندادا‏}‏ الآية‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فأتى اللّه بنيانهم من القواعد‏}‏ أي اجتثه من أصله وأبطل عملهم، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها اللّه‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فأتاهم اللّه من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب‏}‏، وقال اللّه ههنا‏:‏ ‏{‏فأتى اللّه بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ثم يوم القيامة يخزيهم‏}‏ أي يظهر فضائحهم وما كانت تجنه ضمائرهم فيجعله علانية كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوم تبلى السرائر‏}‏ أي تظهر وتشتهر، كما في الصحيحين عن ابن عمر قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند أسته بقدر غدرته، فيقال‏:‏ هذه غدرة فلان بن فلان‏)‏ وهكذا هؤلاء يظهر للناس ما كانوا

يسرونه من المكر ويخزيهم اللّه على رؤوس الخلائق، ويقول لهم الرب تبارك وتعالى مقرعاً وموبخاً‏:‏ ‏{‏أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم‏؟‏‏}‏ تحاربون وتعادون في سبيلهم أين هم عن نصركم وخلاصكم ههنا‏؟‏ ‏{‏هل ينصرونكم أو ينتصرون‏}‏، ‏{‏فما له من قوة ولا ناصر‏}‏، فإذا توجهت عليهم الحجة وقامت عليهم الدلالة‏:‏ وحقت عليهم الكلمة وسكتوا عن الاعتذار حين لا فرار، ‏{‏قال الذين أوتوا العلم‏}‏ وهم السادة في الدنيا والآخرة، ‏{‏إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين‏}‏ أي الفضحية والعذاب محيط اليوم بمن كفر باللّه، وأشرك به ما لا يضره وما لا ينفعه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 28 ‏:‏ 29‏)‏

‏{‏ الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون ‏.‏ فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين ‏}‏

يخبر تعالى عن حال المشركين الظالمي أنفسهم عند احتضارهم ومجيء الملائكة إليهم لقبض أرواحهم الخبيثة ‏{‏فألقوا السلم‏}‏ أي أظهروا السمع والطاعة والانقياد قائلين‏:‏ ‏{‏ما كنا نعمل من سوء‏}‏، كما يقولون يوم المعاد‏:‏ ‏{‏والله ربنا ما كنا مشركين‏}‏، قال اللّه مكذباً لهم في قيلهم ذلك‏:‏ ‏{‏بلى إن اللّه عليم بما كنتم تعملون * فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين‏}‏ أي بئس المقيل والمقام، والمكان، من دار هوان لمن كان متكبراً عن آيات اللّه واتباع رسله، وهم يدخلون جهنم من يوم مماتهم بأرواحهم، وينال أجسادهم في قبورها من حرها وسمومها، فإذا كان يوم القيامة سلكت أرواحهم في أجسادهم، وخلدت في نار جهنم ‏{‏لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها‏}‏، كما قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏30 ‏:‏ 32‏)‏

‏{‏ وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين ‏.‏ جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاؤون كذلك يجزي الله المتقين ‏.‏ الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ‏}‏

هذا خبر عن السعداء بخلاف ما أخبر به عن الأشقياء، فإن أولئك قيل لهم‏:‏ ‏{‏ماذا أنزل ربكم‏}‏ قالوا‏:‏ معرضين عن الجواب، لم ينزل شيئاً إنما هذا أساطير الأولين، وهؤلاء قالوا‏:‏ خيراً أي أنزل خيراً، أي رحمة وبركة لمن اتبعه وآمن به، ثم أخبر عما وعد اللّه عباده فيما أنزله على رسله، فقال‏:‏ ‏{‏للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة‏}‏ الآية، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة‏}‏ أي من أحسن عمله في الدنيا أحسن اللّه إليه عمله في الدنيا والآخرة، ثم أخبر بأن دار الآخرة خير، أي من الحياة الدنيا والجزاء فيها أتم من الجزاء

في الدنيا، كقوله‏:‏ ‏{‏وما عند اللّه خير للأبرار‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏والآخرة خير وأبقى‏}‏، وقال لرسوله صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وللآخرة خير لك من الأولى‏}‏، ثم وصف الدار الآخرة فقال‏:‏ ‏{‏ولنعم دار المتقين‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏جنات عدن‏}‏ بدل من دار المتقين، أي لهم في الآخرة جنات عدن أي مقام يدخلونها، ‏{‏تجري من تحتها الأنهار‏}‏ أي بين أشجارها وقصورها، ‏{‏لهم فيها ما يشاؤون‏}‏، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون‏}‏، وفي الحديث‏:‏ ‏(‏إن السحابة لتمر بالملأ من أهل الجنة وهم جلوس على شرابهم، فلا يشتهي أحد منهم شيئاً إلا أمطرته عليه، حتى إن منهم ليقول‏:‏ أمطرينا كواعب أتراباً فيكون ذلك‏)‏، ‏{‏كذلك يجزي اللّه المتقين‏}‏، أي كذلك يجزي اللّه كل من آمن به واتقاه وأحسن عمله‏.‏ ثم أخبر تعالى عن حالهم عند الاحتضار أنهم طيبون، أي مخلصون من الشرك والدنس وكل سوء، وأن الملائكة تسلم عليهم وتبشرهم بالجنة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين قالوا ربنا اللّه ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون‏}‏‏.‏ وقد قدمنا الأحاديث الواردة في قبض روح المؤمن وروح الكافر عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يثبت اللّه الذين آمنوا بالقول الثابت‏}‏‏.‏ الآية‏.‏

 الآية رقم ‏(‏33 ‏:‏ 34‏)‏

‏{‏ هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك كذلك فعل الذين من قبلهم وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ‏.‏ فأصابهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ‏}‏

يقول تعالى مهدداً للمشركين على تماديهم في الباطل واغترارهم بالدنيا‏:‏ هل ينتظر هؤلاء إلا الملائكة أن تأتيهم لقبض أرواحهم، قاله قتادة، ‏{‏أو يأتي أمر ربك‏}‏ أي يوم القيامة وما يعاينونه من الأهوال‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏كذلك فعل الذين من قبلهم‏}‏ أي هكذا تمادى في شركهم أسلافهم ونظراؤهم وأشباههم من المشركين، حتى ذاقوا بأس اللّه، وحلوا فيما هم من العذاب والنكال، ‏{‏وما ظلمهم اللّه‏}‏ لأنه تعالى أعذر إليهم وأقام حججه عليهم بإرسال رسله، وإنزال كتبه، ‏{‏ولكن كانوا أنفسهم يظلمون‏}‏ أي بمخالفة الرسل والتكذيب بما جاءوا به؛ فلهذا أصابتهم عقوبة اللّه على ذلك، ‏{‏وحاق بهم‏}‏ أي أحاط بهم من العذاب الأليم، ‏{‏ما كانوا به يستهزئون‏}‏ أي يسخرون من الرسل إذا

توعدوهم بعقاب اللّه فلهذا يقال لهم يوم القيامة ‏{‏هذه النار التي كنتم بها تكذبون‏}‏‏.‏

 

">الآية رقم ‏(‏35 ‏:‏ 37‏)‏">

الآية رقم ‏(‏35 ‏:‏ 37‏)‏

‏{‏ وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين ‏.‏ ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ‏.‏ إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين ‏}‏

يخبر تعالى عن اغترار المشركين بما هم فيه من الإشراك واعتذارهم محتجين بالقدر بقولهم‏:‏ ‏{‏لو شاء اللّه ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء‏}‏ أي من البحائر والسوائب والوصائل وغير ذلك، ممّا كانوا ابتدعوه واخترعوه من تلقاء أنفسهم ما لم ينزل به سطاناً، ومضمون كلامهم أنه لو كان تعالى كارهاً لما فعلنا لأنكره علينا بالعقوبة ولما أمكننا منه، قال تعالى راداً عليهم شبهتهم‏:‏ ‏{‏فهل على الرسل إلا البلاغ المبين‏}‏ أي ليس الأمر كما تزعمون أنه لم ينكره عليكم، بل قد أنكره عليكم أشد الإنكار ونهاكم عنه آكد النهي، وبعث في كل أمة في كل قرن وطائفة من الناس رسولاً، فلم يزل تعالى يرسل إلى الناس الرسل بذلك منذ حدث الشرك في بني آدم في قوم نوح الذين أرسل إليهم نوح، وكان أول رسول بعثه اللّه إلى أهل الأرض، إلى أن ختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي طبقت دعوته الإنس والجن في المشارق والمغارب‏.‏ ‏{‏ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا اللّه واجتنبوا الطاغوت‏}‏ فكيف يسوغ لأحد من المشركين بعد هذا أن يقول‏:‏ ‏{‏لو شاء اللّه ما عبدنا من دونه من شيء‏}‏‏؟‏ فمشيئته تعالى الشرعية عنهم منفية لأنه نهاهم عن ذلك على ألسنة رسله؛ وأما مشيئته الكونية وهي تمكينهم من ذلك قدراً فلا حجة لهم فيها، لأنه تعالى خلق النار وأهلها من الشياطين والكفرة وهو لا يرضى لعباده الكفر، وله في ذلك حجة بالغة وحكمة قاطعة، ثم إنه تعالى قد أخبر أنه أنكر عليهم بالعقوبة في الدنيا بعد إنذار الرسل، فلهذا قال‏:‏ ‏{‏فمنهم من هدى اللّه ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين‏}‏ أي اسألوا عما كان من أمر من خالف الرسل وكذب الحق، كيف ‏{‏دمر اللّه عليهم وللكافرين أمثالها‏}‏، فقال‏:‏ ‏{‏ولقد كذب الذين من قبلهم فكيف كان نكير‏}‏، ثم أخبر اللّه تعالى رسوله صلى اللّه عليه وسلم أن حرصه على هدايتهم لا ينفعهم، إذا كان اللّه قد أراد أضلالهم، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يرد اللّه فتنته فلن تملك له من اللّه شيئاً‏}‏، وقال نوح لقومه‏:‏ ‏{‏ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم أن كان اللّه يريد أن يغويكم‏}‏، وقال في هذه الآية الكريمة‏:‏ ‏{‏إن تحرص على هداهم فإن اللّه لا يهدي من يضل‏}‏‏.‏ كما قال اللّه‏:‏ ‏{‏من يضلل اللّه فلا هادي له ويذرهم في طيغانهم يعمهون‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فإن اللّه‏}‏ أي شأنه وأمره، ‏{‏لا يهدي من يضل‏}‏ أي من أضله، فمن ذا الذي يهديه من بعد اللّه‏؟‏ أي لا أحد ‏{‏وما لهم من ناصرين‏}‏ أي ينقذونه من عذابه ووثاقه ‏{‏ألا له الخلق والأمر تبارك اللّه رب العالمين‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 38 ‏:‏ 40‏)‏

‏{‏ وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون ‏.‏ ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين ‏.‏ إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ‏}‏

يقول تعالى مخبراً عن المشركين أنهم خلفوا فأقسموا باللّه ‏{‏جهد أيمانهم‏}‏ أي اجتهدوا في الحلف وغلظوا الأيمان أنه لا يبعث اللّه من يموت، أي استبعدوا ذلك وكذبوا الرسل في إخبارهم لهم بذلك، وحلفوا على نقيضه‏.‏ فقال تعالى مكذباً لهم وراداً عليهم‏:‏ ‏{‏بلى‏}‏ أي بلى سيكون ذلك، ‏{‏وعدا عليه حقا‏}‏ أي لا بد منه، ‏{‏ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏}‏ أي فلجهلهم يخالفون الرسل ويقعون في الكفر‏.‏ ثم ذكر تعالى حكمته في المعاد وقيام الأجساد يوم التناد فقال‏:‏ ‏{‏ليبين لهم‏}‏ أي للناس، ‏{‏الذي يختلفون فيه‏}‏ أي من كل شيء، ‏{‏وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين‏}‏ أي في أيمانهم وأقسامهم

لا يبعث اللّه من يموت‏.‏ ثم أخبر تعالى عن قدرته على ما يشاء وأنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، والمعاد من ذلك إذا أراد كونه فإنما يأمر به مرة واحدة، فيكون كما يشاء كقوله ‏{‏وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة‏}‏، وقال في هذه الآية الكريمة‏:‏ ‏{‏إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون‏}‏ أي أنه تعالى لا يحتاج إلى تأكيد فيما يأمر به فإنه تعالى لا يمانع، ولا يخالف، لأنه الواحد القهار، العظيم الذي قهر سلطانه وجبروته وعزته كل شيء فلا إله إلا هو ولا رب سواه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏41 ‏:‏ 42‏)‏

‏{‏ والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون ‏.‏ الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون ‏}‏

يخبر تعالى عن جزائه للمهاجرين في سبيله ابتغاء مرضاته، الذين فارقوا الدار والإخوان والخلان رجاء ثواب اللّه وجزائه، وقد وعدهم تعالى بالمجازاة الحسنة في الدنيا والآخرة فقال‏:‏ ‏{‏لنبوئنهم في الدنيا حسنة‏}‏، قال ابن عباس‏:‏ المدينة، وقيل‏:‏ الرزق الطيب، قاله مجاهد، ولا منافاة بين القولين، فإنهم تركوا مساكنهم وأموالهم فعوضهم اللّه خيراً منها في الدنيا، فإن من ترك شيئاً للّه عوضه اللّه بما هو خير له منه، وكذلك وقع، فإن اللّه مكن لهم في البلاد، وحكمهم على رقاب العباد، وصاروا أمراء حكاماً وكل منهم للمتقين إماماً، وأخبر أن ثوابه للمهاجرين في الدار الآخرة أعظم مما أعطاهم في الدنيا فقال‏:‏ ‏{‏ولأجر الآخرة أكبر‏}‏ أي مما أعطيناهم في الدنيا ‏{‏لو كانوا يعلمون‏}‏ أي لو كان المتخلفون عن الهجرة معهم يعلمون ما ادخر اللّه لمن أطاعه واتبع رسوله، ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاءه يقول‏:‏ خذ بارك اللّه لك فيه، هذا ما وعدك اللّه في الدنيا، وما ادخر لك في الآخرة أفضل، ثم قرأ هذه الآية‏:‏ ‏{‏لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون‏}‏، ثم وصفهم تعالى فقال‏:‏ ‏{‏الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون‏}‏ أي صبروا على الأذى من قومهم متوكلين على اللّه الذي أحسن لهم العاقبة في الدنيا والآخرة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 43 ‏:‏ 44‏)‏

‏{‏ وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ‏.‏ بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون ‏}‏

قال ابن عباس‏:‏ لما بعث اللّه محمداً صلى اللّه عليه وسلم رسولاً أنكرت العرب ذلك أو من أنكر منهم وقالوا‏:‏ اللّه أعظم من أن يكون رسوله بشراً فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس‏}‏ الآية، وقال‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون‏}‏ يعني أهل الكتب الماضية أبشراً كانت الرسل إليهم أم ملائكة‏؟‏ فإن كانوا ملائكة أنكرتم، وإن كانوا بشراً فلا تنكروا أن يكون محمد صلى اللّه عليه وسلم رسولاً، والغرض أن هذه الآية الكريمة أخبرت بأن الرسل الماضيين قبل محمد صلى اللّه عليه وسلم كانوا بشراً كما هو بشر، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏قل ما كنت بدعا من الرسل‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي‏}‏، ثم أرشد اللّه تعالى من شك في كون الرسل كانوا بشراً إلى سؤال أصحاب الكتب المتقدمة عن الأنبياء الذين سلفوا، هل كان أنبياؤهم بشراً أو ملائكة، ثم ذكر تعالى أنه أرسلهم ‏{‏بالبينات‏}‏ أي بالحجج والدلائل ‏{‏والزبر‏}‏ وهي الكتب، قاله ابن عباس ومجاهد؛ والزبر‏:‏ جمع زبور، تقول العرب‏:‏ زبرت الكتاب إذا كتبته‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وكل شيء فعلوه في الزبر‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون‏}‏، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأنزلنا إليك الذكر‏}‏ يعني القرآن ‏{‏لتبين للناس ما نزل إليهم‏}‏ أي من ربهم لعلمك بمعنى ما أنزل اللّه عليك، وحرصك عليه واتباعك له، ولعلمنا بأنك أفضل الخلائق وسيد ولد آدم فتفصل لهم ما أجمل وتبين لهم ما أشكل والمراد بأهل الذكر أهل الكتاب قاله ابن عباس ومجاهد والأعمش وعبد الرحمن بن زيد ، ‏{‏ولعلهم يتفكرون‏}‏ أي ينظرون لأنفسهم فيتهدون فيفوزون بالنجاة في الدارين‏.‏

 الآية رقم ‏(‏45 ‏:‏ 47‏)‏

‏{‏ أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون ‏.‏ أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين ‏.‏ أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرؤوف رحيم ‏}‏

يخبر تعالى عن حلمه وإنظاره العصاة الذين يعملون السيئات ويدعون إليها، ويمكرون بالناس في دعائهم إياهم وحملهم عليها مع قدرته على أن يخسف بهم الأرض، أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون، أي من حيث لا يعلمون مجئيه إليهم، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏أو يأخذهم في تقلبهم‏}‏ أي تقلبهم في المعايش واشتغالهم بها في أسفار ونحوها من الأشغال الملهية، قال قتادة والسدي‏:‏ تقلبهم أي أسفارهم؛ وقال مجاهد والضحّاك‏:‏ ‏{‏في تقلبهم‏}‏ في الليل والنهار، كقوله‏:‏ ‏{‏أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهو نائمون‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فما هم بمعجزين‏}‏ أي لا يعجزون على اللّه على أي حال كانوا عليه، وقوله‏:‏ ‏{‏أو يأخذهم على تخوف‏}‏ أي أو يأخذهم اللّه في حال خوفهم من أخذه لهم، فإنه يكون أبلغ وأشد، فإن حصول ما يتوقع مع الخوف الشديد، ولهذا قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏أو يأخذهم على تخوف‏}‏‏:‏ يقول‏:‏ إن شئت أخذته على أثر موت صاحبه وتحوفه بذلك وكذا روي عن مجاهد وقتادة والضحّاك ‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فإن ربكم لرؤوف رحيم‏}‏ أي حيث لم يعاجلكم بالعقوبة، كما ثبت في الصحيحين ‏(‏لا أحد أصبر على أذى سمعه من اللّه، إنهم يجعلون له ولداً وهو يرزقهم ويعافيهم‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وكأي من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏48 ‏:‏ 50‏)‏

‏{‏- أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون ‏.‏ ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون ‏.‏ يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون ‏}‏

يخبر تعالى عن عظمته وجلاله وكبريائه الذي خضع له كل شيء، ودانت له الأشياء والمخلوقات بأسرها، جماداتها وحيواناتها ومكلفوها من الإنس والجن والملائكة، فأخبر أن كل ما له ظل يتفيأ ذات اليمين وذات الشمال، أي بكرة وعشياً فإنه ساجد بظله للّه تعالى‏.‏ قال مجاهد‏:‏ إذا زالت الشمس سجد كل شيء للّه عزَّ وجلَّ، وقوله‏:‏ ‏{‏وهم داخرون‏}‏ أي صاغرون‏.‏ وقال مجاهد أيضاً‏:‏ سجود كل شيء فيؤه، وأمواج البحر صلاته، ونزلهم منزلة من يعقل إذا أسند السجود إليهم، فقال‏:‏ ‏{‏وللّه يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة‏}‏، كما قال‏:‏ ‏{‏وللّه يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏والملائكة وهم لا يستكبرون‏}‏ أي تسجد للّه أي غير مستكبرين عن عبادته، ‏{‏يخافون ربهم من فوقهم‏}‏ أي يسجدون خائفين وجلين من الرب جل جلاله، ‏{‏ويفعلون ما يؤمرون‏}‏ أي مثابرين على طاعته تعالى وامتثال أوامره، وترك زواجره‏.‏

 الآية رقم ‏(‏51 ‏:‏ 55‏)‏

‏{‏ وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون ‏.‏ وله ما في السماوات والأرض وله الدين واصبا أفغير الله تتقون ‏.‏ وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ‏.‏ ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون ‏.‏ ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون ‏}‏

يخبر تعالى أنه لا إله إلا هو، وأنه لا ينبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له، فإنه مالك كل شيء وخالقه وربه ‏{‏وله الدين واصبا‏}‏، قال ابن عباس ومجاهد‏:‏ أي دائماً، وعن ابن عباس أيضاً‏:‏ أي واجباً، وقال مجاهد‏:‏ أي خالصاً له، أي له العبادة وحده ممن في السماوات والأرض، كقوله‏:‏ ‏{‏ألا لله الدين الخالص‏}‏، ثم أخبر أنه مالك النفع والضر، وأن ما بالعباد من رزق ونعمة وعافية ونصر فمن فضله عليهم، وإحسانه إليهم، ‏{‏ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون‏}‏ أي لعلمكم أنه لا يقدر على إزالته إلا هو، فإنكم عند الضرورات تلجأون إليه، وتسألونه وتلحون في الرغبة إليه مستغيثين به، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه‏}‏، وقال ههنا‏:‏ ‏{‏ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون * ليكفروا بما آتيناهم‏}‏ قيل اللام ههنا لام العاقبة، وقيل‏:‏ لام التعليل‏.‏ بمعنى قضينا لهم ذلك ليكفروا أي يستروا ويجحدوا نعم اللّه عليهم، مع أنه المسدي إليهم النعم، الكاشف عنهم النقم، ثم توعدهم قائلاً‏:‏ ‏{‏فتمتعوا‏}‏ أي اعملوا ما شئتم بما أنتم فيه قليلاً ‏{‏فسوف تعلمون‏}‏ أي عاقبة ذلك‏.‏

 الآية رقم ‏(‏56 ‏:‏ 60‏)‏

‏{‏ ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون ‏.‏ ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون ‏.‏ وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم ‏.‏ يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون ‏.‏ للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم ‏}‏

يخبر تعالى عن قبائح المشركين الذين عبدوا مع اللّه غيره من الأصنام والأوثان والأنداد بغير علم وجعلوا للأوثان نصيباً مما رزقهم اللّه، فقالوا‏:‏ ‏{‏هذا للّه بزعمهم وهذا لشركائنا‏}‏ أي جعلوا لآلهتم نصيباً مع اللّه وفضلوها على جانبه، فأقسم اللّه تعالى بنفسه الكريمة ليسألنهم عن ذلك الذي افتروه ائتفكوه، وليقابلنهم عليه وليجازينهم أوفر الجزاء في نار جهنم فقال‏:‏ ‏{‏تاللّه لتسألن عما كنتم تفترون‏}‏، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم جعلوا الملائكة إناثاً وجعلوها بنات اللّه، فعبدوها معه، فنسبوا إليه تعالى الولد ولا ولد له، ثم أعطوه أخس القسمين من الأولاد وهو البنات وهم لا يرضونها لأنفسهم، كما قال‏:‏ ‏{‏ألكم الذكر وله الأنثى‏؟‏ تلك إذا قسمة ضيزى‏}‏، وقوله ههنا‏:‏ ‏{‏ويجعلون لله البنات سبحانه‏}‏ أي عن قولهم وإفكهم، ‏{‏ألا إنهم ليقولن ولد اللّه وإنهم لكاذبون‏.‏ أصطفى البنات على البنين‏؟‏ ما لكم كيف تحكمون‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ولهم ما يشتهون‏}‏ أي يختارون لأنفسهم الذكور ويأنفون لأنفسهم من البنات التي نسبوها إلى اللّه، تعالى اللّه عن قولهم علواً كبيراً‏.‏ فإنه ‏{‏وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا‏}‏ أي كئيباً من الهم ‏{‏وهو كظيم‏}‏ ساكت من شدة ما هو فيه من الحزن، ‏{‏يتوارى من القوم‏}‏ أي يكره أن يراه الناس، ‏{‏من سوء ما بشر به أيمسكه على هون

أم يدسه في التراب‏}‏ أي إن أبقاها أبقاها مهانة لا يورثها ولا يعتني بها، ويفضل أولاده الذكور عليها، ‏{‏أم يدسه في التراب‏}‏ أي يئدها وهو أن يدفنها فيه حية كما كانوا يصنعون في الجاهلية، أفمن يكرهونه هذه الكراهة ويأنفون لأنفسهم عنه يجعلونه للّه‏؟‏ ‏{‏ألا ساء ما يحكمون‏}‏ أي بئس ما قالوا، وبئس ما قسموا، وبئس ما نسبوه إليه، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم‏}‏، وقوله ههنا‏:‏ ‏{‏للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء‏}‏ أي النقص إنما ينسب إليهم ‏{‏وللّه المثل الأعلى‏}‏ أي الكمال المطلق من كل وجه وهو منسوب إليه ‏{‏وهو العزيز الحكيم‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏61 ‏:‏ 62‏)‏

‏{‏ ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ‏.‏ ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون ‏}‏

يخبر تعالى عن حلمه بخلقه مع ظلمهم، وأنه لو يؤاخذهم بما كسبوا ما ترك على ظهر الأرض من دابة، أي لأهلك دواب الأرض ومعهم بنو آدم، ولكن الرب جل جلاله يحلم ويستر، وينظر إلى أجل مسمى أي لا يعاجلهم بالعقوبة إذ لو فعل ذلك بهم لما أبقى أحداً‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏(‏إن اللّه لا يؤخر شيئاً إذا جاء أجله، وإنما زيادة العمر بالذرية الصالحة يرزقها اللّه العبد فيدعون له من بعده، فليحقه دعاؤهم في قبره، فذلك زيادة العمر‏)‏ ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء مرفوعاً‏"‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ويجعلون للّه ما يكرهون‏}‏ أي من البنات ومن الشركاء الذين هم عبيده وهم يأنفون أن يكون عند أحدهم شريك له في ماله، وقوله‏:‏ ‏{‏وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى‏}‏ إنكاراً عليهم في دعواهم مع ذلك أن لهم الحسنى في الدنيا، كقوله‏:‏ ‏{‏ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا‏}‏ فجمع هؤلاء بين عمل السوء، وتمني الباطل بأن يجازوا على ذلك حسناً وهذا مستحيل، يعملون السيئات ويجزون الحسنات‏؟‏أيجتبى من الشوك العنب‏؟‏ ولهذا قال تعالى رداً عليهم في تمنيهم ذلك‏:‏ ‏{‏لا جرم‏}‏ أي حقاً لا بد منه، ‏{‏أن لهم النار‏}‏ أي يوم القيامة، ‏{‏وأنهم مفرطون‏}‏، قال مجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وغيرهم‏:‏ منسيون فيها مضيعون، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا‏}‏ وعن قتادة أيضاً ‏{‏مفرطون‏}‏‏:‏ أي معجلون إلى النار من الفرط وهو السابق إلى الورد، ولا منافاة لأنهم يعجل بهم يوم القيامة إلى النار وينسون فيها أي يخلدون‏.‏

 الآية رقم ‏(‏63 ‏:‏ 65‏)‏

‏{‏ تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم ‏.‏ وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ‏.‏ والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعون ‏}‏

يذكر تعالى أنه أرسل إلى الأمم الخالية رسلاً فكذبت الرسل، فلك يا محمد في إخوتك من المرسلين أسوة فلا يهُمنَّك تكذيب قومك لك، وأما المشركون الذين كذبوا الرسل فإنما حملهم على ذلك تزيين الشيطان لهم ما فعلوه‏.‏ ‏{‏فهو وليهم اليوم‏}‏ أي هم تحت العقوبة والنكال، والشيطان وليهم ولا يملك لهم خلاصاً، ولا صريخ لهم ولهم عذاب أليم، ثم قال تعالى لرسوله إنه إنما أنزل عليه الكتاب ليبين للناس الذي يختلفون فيه، فالقرآن فاصل بين الناس في كل ما يتنازعون فيه، ‏{‏وهدى‏}‏ أي للقلوب، ‏{‏ورحمة‏}‏ أي لمن تمسك به، ‏{‏لقوم يؤمنون‏}‏، وكما جعل سبحانه القرآن حياة القلوب الميتة بكفرها كذلك يحيي الأرض بعد موتها بما أنزله عليها من السماء من ماء ‏{‏إن في ذلك لآية لقوم يسمعون‏}‏ أي يفهمون الكلام ومعناه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏66 ‏:‏ 67‏)‏

‏{‏ وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين ‏.‏ ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏وإن لكم‏}‏ أيها الناس ‏{‏في الأنعام‏}‏ وهي الإبل والبقر والغنم ‏{‏لعبرة‏}‏ أي لآية ودلالة على حكمه خالقها وقدرته ورحمته ولطفه، ‏{‏نسقيكم مما في بطونه‏}‏ الضمير عائد على الحيوان، فإن الأنعام حيوانات، أي نسقيكم مما في بطن هذا الحيوان، وفي الآية الأخرى ‏{‏مما في بطونها‏}‏ ويجوز هذا وهذا، كما في قوله‏:‏ ‏{‏كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏من بين فرث ودم لبنا خالصا‏}‏ أي يتخلص الدم بياضه وطعمه وحلاوته، من بين فرث ودم في باطن الحيوان، فيسري كل إلى موطنه إذا نضج الغذاء في معدته، فينصرف منه دم إلى العروق، ولبن إلى الضرع، وبول إلى المثانة، وروث إلى المخرج، وكل منها لا يشوب الآخر، ولا يمازجه بعد انفصاله عنه ولا يتغير به‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لبنا خالصا سائغا للشاربين‏}‏ أي لا يغص به أحد، ولما ذكر اللبن وأنه تعالى جعله شراباً للناس سائغاً ثنى بذكر ما يتخذه الناس من الأشربة من ثمرات النخيل والأعناب، وما كانوا يصنعون من النبيذ المسكر قبل تحريمه، ولهذا امتن به عليهم فقال‏:‏

‏{‏ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا‏}‏، قال ابن عباس‏:‏ السكر ما حرم من

ثمرتيهما، والرزق الحسن ما أحل من ثمرتيهما، وفي رواية‏:‏ السكر حرامه، والرزق الحسن حلاله، يعني ما يبس منهما من تمر وزبيب، وما عمل منهما من طلاء وهو الدبس وخل ونبيذ حلال يشرب قبل أن يشتد، كما وردت السنة بذلك ‏{‏إن في ذلك لآية لقوم يعقلون‏}‏ ناسب ذكر العقل ههنا فإنه أشرف ما في الإنسان، ولهذا حرمه اللّه على هذه الأمة الأشربة المسكرة صيانة لعقولها وقال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون‏}‏‏؟‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏68 ‏:‏ 69‏)‏

‏{‏ وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون ‏.‏ ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون ‏}‏

المراد بالوحي هنا الإلهام والهداية والإرشاد للنحل، أن تتخذ من الجبال بيوتاً تأوي إليها، ومن الشجر ومما يعرشون، ثم أذن لها تعالى إذناً قدرياً تسخيرياً أن تأكل من كل الثمرات، وأن تسلك الطرق التي جعلها اللّه تعالى مذللة لها أي مسهلة عليها حيث شاءت من هذا الجو العظيم والبراري الشاسعة والأودية والجبال الشاهقة، ثم تعود كل واحدة منها إلى بيتا وما لها فيه من فراخ وعسل، فتبني الشمع من أجنحتها، وتقيء العسل من فيها، ثم تصبح إلى مراعيها‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاسلكي سبل ربك ذللا‏}‏ أي فاسلكيها مذللة لك، نص عليه مجاهد، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس‏}‏ ما بين أبيض وأصفر وأحمر، وغير ذلك من الألوان الحسنة على اختلاف مراعيها ومأكلها منها، وقوله‏:‏ ‏{‏فيه شفاء للناس‏}‏ أي في العسل شفاء للناس، أ من أدواء تعرض لهم‏.‏ قال بعض من تكلم على الطب النبوي‏:‏ لو قال فيه الشفاء للناس

لكان دواء لكل داء؛ ولكن قال‏:‏ فيه شفاء للناس روي عن مجاهد وابن جرير في قوله‏:‏ ‏{‏فيه شفاء للناس‏}‏ أن المراد به القرآن وهذا قول صحيح في نفسه، ولكن ليس هو الظاهر ههنا من سياق الآية، فإن الآية ذكر فيها العسل فالضمير يعود إليه واللّه أعلم ، أي يصلح لكل أحد من أدواء باردة، فإنه حار، والشيء يداوى بضده‏.‏ عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه أن رجلاً جاء إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال إن أخي استطلق بطنه، فقال‏:‏ ‏(‏اسقه عسلاً‏)‏ فذهب فسقاه عسلاً، ثم جاء فقال‏:‏ يا رسول اللّه سقيته عسلاً فما زاده استطلاقاً‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏اذهب فاسقه عسلاً‏)‏، فذهب فسقاه عسلاً، ثم جاء فقال‏:‏ يا رسول اللّه ما زاده إلا استطلاقاً، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏صدق اللّه وكذب بطن أخيك، اذهب فاسقه عسلاً‏)‏، فذهب فسقاه عسلاً فبرئ ‏"‏أخرجه البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري‏"‏قال بعض العلماء بالطب‏:‏ كان هذا الرجل عنده فضلات، فلما سقاه عسلاً وهو حار تحللت فأسرعت في الاندفاع، فزاده إسهالاً، فاعتقد الأعرابي أن هذا يضره وهو مصلحة لأخيه، ثم سقاه فازداد التحليل والدفع، ثم سقاه فكذلك، فلما اندفعت

الفضلات لفاسدة المضرة بالبدن استمسك بطنه وصلح مزاجه واندفعت الأسقام والالآم ببركة إشارته عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام‏.‏ وفي الصحيحين عن عائشة رضي اللّه عنها أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يعجبه الحلواء والعسل‏.‏ وفي صحيح البخاري عن ابن عباس قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الشفاء في ثلاثة‏:‏ في شرطة محجم، أو شربة عسل، أو كية بنار، وأنهى أمتي عن الكي‏)‏

وقال البخاري، عن جابر بن عبد اللّه قال‏:‏ سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إن كان في شيء من أدويتكم خير‏:‏ ففي شرطة محجم، أو شربة عسل، أو لذعة بنار توافق الداء، وما أحب أن أكتوي‏)‏ وفي الحديث‏:‏ ‏(‏عليكم بالشفاءين‏:‏ العسل والقرآن‏)‏ ‏"‏رواه ابن ماجه عن ابن مسعود مرفوعاً، قال ابن كثير‏:‏ وإسناده جيد‏"‏، وعن علي بن أبي طالب أنه قال‏:‏ إذا أراد أحدكم الشفاء فليكتب آية من كتاب اللّه في صحفة، وليغسلها بماء السماء، وليأخذ من امرأته درهماً عن طيب نفس منها، فليشتر به عسلاً فليشربه كذلك فإنه شفاء، أي من وجوه‏:‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏وأنزلنا من السماء ماء مباركا‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا‏}‏، وقال في العسل‏:‏ ‏{‏فيه شفاء للناس‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون‏}‏ أي إن في إلهام اللّه لهذه الدواب الضعيفة الخلقة إلى السلوك في هذه المهامة والاجتناء من سائر الثمار، ثم جمعها للشمع والعسل وهو أطيب الأشياء لآية لقوم يتفكرون في عظمة خالقها ومقدرها ومسخرها وميسرها فيستدلون بذلك على أنه الفاعل القادر الحكيم العليم الكريم الرحيم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏70‏)‏

‏{‏ والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا إن الله عليم قدير ‏}‏

يخبر تعالى عن تصرفه في عباده، وأنه هو الذي أنشأهم من العدم، ثم بعد ذلك يتوفاهم، ومنهم من يتركه حتى يدركه الهرم‏.‏ وقد روي عن علي رضي اللّه عنه ‏{‏أرذل العمر‏}‏‏:‏ خمس وسبعون سنة‏.‏ وفي هذا السن يحصل له ضعف القوى والخرف وسوء الحفظ وقلة العلم، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏لكي لا يعلم بعد علم شيئا‏}‏ أي بعد ما كان عالماً أصبح لا يدري شيئاً من الفند والخرف، ولهذا روى البخاري عند تفسير هذه الآية عن أنَس بن مالك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يدعو‏:‏ ‏(‏أعوذ بك من البخل والكسل والهرم وأرذل العمر وعذاب القبر وفتنة الدجال وفتنة المحيا والممات‏)‏

 

">الآية رقم ‏(‏71‏)‏">

الآية رقم ‏(‏71‏)‏

‏{‏ والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون ‏}‏

يبين تعالى للمشركين جهلهم وكفرهم فيما زعموه للّه من الشركاء، وهم يعترفون أنه عبيد له، كما كانوا يقولون في تلبيتهم في حجهم‏:‏ لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك، فقال تعالى منكراً عليهم‏:‏ أنتم لا ترضون أن تساووا عبيدكم فيما رزقناكم فكيف يرضى هو تعالى بمساواة عبيد له في الإلهية والتعظيم‏؟‏ قال ابن عباس في هذه الآية‏:‏ لم يكونوا ليشركوا عبيدهم في أموالهم ونسائهم، فكيف يشركون عبيدي معي في سلطاني‏؟‏ فذلك قوله‏:‏ ‏{‏أفبنعمة اللّه يجحدون‏}‏‏.‏ وقال في الرواية الأخرى عنه‏:‏ فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم‏؟‏ وقال مجاهد‏:‏ هذا مثل الآلهة الباطلة‏.‏ وقال قتادة‏:‏ هذا مثل ضربه اللّه فهل منكم من أحد يشاركه مملوكه في زوجته وفي فراشه فتعدلون باللّه خلقه وعباده‏؟‏ فإن لم ترض لنفسك هذا فاللّه أحق أن ينزه منك، وقوله‏:‏ ‏{‏أفبنعمة اللّه يجحدون‏}‏ أي كيف جحدوا نعمته وأشركوا معه غيره‏.‏ وعن الحسن البصري قال‏:‏ كتب عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه إلى أبي موسى الأشعري‏:‏ واقنع برزقك من الدنيا فإن الرحمن فضل بعض عباده على بعض في الرزق، بلاء يبتلي به كلا، فيبتلي به من بسط له كيف شكره للّه وأداؤه الحق الذي افترض عليه فيما رزقه وخوله ‏"‏رواه ابن أبي حاتم‏"‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏72‏)‏

‏{‏ والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون ‏}‏

يذكر تعالى نعمه على عبيده بأن جعل لهم من أنفسهم أزواجاً من جنسهم وشكلهم، ولو جعل الأزواج من نوع آخر ما حصل الائتلاف والمودة والرحمة، ولكن من رحمته خلق من بني آدم ذكوراً وإناثاً، وجعل الإناث أزواجاً للذكور، ثم ذكر تعالى بأنه جعل من الأزواج البنين والحفدة وهم أولاد البنين، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏بنين وحفدة‏}‏ هم الولد وولد الولد، وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏بنين وحفدة‏}‏ ابنه وخادمه، وقال طاووس وغير واحد‏:‏ الحفدة الخدم‏.‏ وعن عكرمة أنه قال‏:‏ الحفدة من خَدَمك من ولدك وولد ولدك، قال الضحّاك‏:‏ إنما كانت العرب تخدمها بنوها‏.‏ وقال علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس‏:‏ هم الأصهار، قال ابن جرير‏:‏ وهذه الأقوال كلها داخلة في معنى الحفدة وهو الخدمة، ومنه قوله في القنوت‏:‏ وإليك نسعى ونحفد ولما كانت الخدمة قد تكون من الأولاد والخدم والأصهار فالنعمة حاصلة بهذا كله، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة‏}‏، قلت‏:‏ فمن جعل ‏{‏وحفدة‏}‏ متعلقاً بأزواجكم فلا بد أن يكون المراد الأولاد وأولاد الأولاد أو الأصهار، لأنهم أزواج البنات أو أولاد الزوجة، فإنهم يكونون غالباً تحت كنف الرجل وفي حجره وفي خدمته، وأما من جعل الحفدة الخدم فعنده أنه معطوف على قوله‏:‏ ‏{‏واللّه جعل لكم من أنفسكم أزواجا‏}‏ أي جعل لكم الأزواج والأولاد خدماء، وقوله‏:‏ ‏{‏ورزقكم من الطيبات‏}‏ أي من المطاعم والمشارب، ثم قال تعالى منكراً على من أشرك في عباده المنعم غيره‏:‏ ‏{‏أفبالباطل يؤمنون‏}‏‏؟‏ وهم الأنداد والأصنام ‏{‏وبنعمة اللّه هم يكفرون‏}‏‏؟‏ أي يسترون نعم اللّه عليهم ويضيفونها إلى غيره‏.‏

 الآية رقم ‏(‏73 ‏:‏ 74‏)‏

‏{‏ ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا ولا يستطيعون ‏.‏ فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون ‏}‏

يقول تعالى إخباراً عن المشركين الذين عبدوا معه غيره مع أنه هو المنعم المتفضل الخالق الرازق وحده لا شريك له، ومع هذا يعبدون من دونه الأصنام والأنداد والأوثان ‏{‏ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا‏}‏ أي لا يقدر على إنزال مطر ولا إنبات زرع ولا شجر، ولا يملكون ذلك لأنفسهم، أي ليس لهم ذلك ولا يقدرون عليه لو أرادوه، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلا

تضربوا للّه الأمثال‏}‏ أي لا تجعلوا له أنداداً وأشباهاً وأمثالاً ‏{‏إن اللّه يعلم وأنتم لا تعلمون‏}‏ أي

أنه يعلم ويشهد أنه لا إله إلا هو وأنتم بجهلكم تشركون به غيره‏.‏

 الآية رقم ‏(‏75‏)‏

‏{‏ ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون ‏}‏

قال ابن عباس‏:‏ هذا مثل ضربه اللّه للكافر والمؤمن، وكذا قال قتادة، واختاره ابن جرير، فالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء مثل الكافر، والمرزوق الرزق الحسن فهو ينفق منه سراً وجهراً هو المؤمن، وقال مجاهد‏:‏ هو مثل مضروب للوثن وللحق تعالى، فهل يستوي هذا وهذا‏؟‏ ولكا كان الفرق بينهما ظاهراً واضحاً بيناً لا يجهله إلا كل غبي قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏الحمد للّه بل أكثرهم لا يعلمون‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏76‏)‏

‏{‏ وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم ‏}‏

قال مجاهد‏:‏ وهذا أيضاً المراد به الوثن والحق تعالى، يعني أن الوثن أبكم لا يتكلم ولا ينطق بخير ولا بشيء ولا يقدر على شيء بالكلية، فلا مقال ولا فعال، وهو مع هذا ‏{‏كلٌّ‏}‏ أي عيال وكلفة على مولاه ‏{‏أينما يوجهه‏}‏ أي يبعثه ‏{‏لا يأت بخير‏}‏ ولا ينجح مسعاه ‏{‏هل يستوي‏}‏ من هذه صفاته ‏{‏ومن يأمر بالعدل‏}‏ أي بالقسط فمقاله حق وفعاله مستقيمة ‏{‏وهو على صراط مستقيم‏}‏، وقال ابن عباس‏:‏ هو مثل للكافر والمؤمن أيضاً كما تقدم‏:‏ وقال ابن جرير‏:‏ نزلت في رجل من قريش وعبده يعني قوله‏:‏ ‏{‏عبدا مملوكا‏}‏ الآية، وفي قوله‏:‏ ‏{‏وضرب اللّه مثلا رجلين أحدهما أبكم - إلى قوله - وهو على صراط مستقيم‏}‏ قال‏:‏ هو عثمان بن عفان، قال‏:‏ والأبكم الذي أينما يوجهه لا يأت بخير قال‏:‏ هو مولى لعثمان بن عفان، كان عثمان ينفق عليه ويكفله ويكفيه المؤونة، وكان الآخر يكره الإسلام ويأباه، وينهاه عن الصدقة والمعروف، فنزلت فيهما ذكر السهيلي‏:‏ أن الأبكم هو أبو جهل لعنه اللّه، واسمه عمرو بن هشام بن المغيرة‏.‏ والذي يأمر بالعدل‏:‏ هو عمار بن ياسر العنسي المذحجي، وكان أبو جهل يعذبه على الإسلام، ويعذّب أُمه سمية، وكانت مولاة لأبي جهل، وقد طعنها بالرمح في قلبها فماتت، فهي أول شهيدة في الإسلام ‏.‏

 الآية رقم ‏(‏77 ‏:‏ 79‏)‏

‏{‏ ولله غيب السماوات والأرض وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شيء قدير ‏.‏ والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ‏.‏ ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ‏}‏

يخبر تعالى عن كمال قدرته على الأشياء في علمه غيب السماوات والأرض واختصاصه بعلم الغيب، فلا اطلاع لأحد على ذلك إلا أن يطلعه تعالى على ما يشاء، وفي قدرته التامة التي لا تخالف ولا تمانع، وأنه إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون كما قال‏:‏ ‏{‏وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر‏}‏ أي فيكون ما يريد كطرف العين، وهكذا قال ههنا‏:‏ ‏{‏وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن اللّه على كل شيء قدير‏}‏، ثم ذكر تعالى منته على عباده في إخراجه إياهم من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئاً، ثم بعد هذا يرزقهم السمع الذي به يدركون الأصوات، والأبصار التي بها يحسون المرئيات، والأفئدة وهي العقول، وهذه القوى والحواس تحصل للإنسان على التدريج قليلاً قليلاً، كلما كبر زيد في سمعه وبصره وعقله حتى يبلغ أشده، وإنما جعل تعالى هذه في الإنسان ليتمكن بها من عبادة ربه تعالى، فيستعين بكل جارحة وعضو وقوة على طاعة مولاه، كما جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ يقول تعالى‏:‏ من عادى لي ولياً فقد بارزني بالحرب، وما تقرّب إليّ عبدي بشيء أفضل من أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن دعاني لأجبيبنه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد منه‏)‏ فمعنى الحديث أن العبد إذا أخلص الطاعة صارت أفعاله كلها للّه عزَّ وجلَّ، فلا يسمع إلا للّه، ولا يبصر إلا للّه أي ما شرعه اللّه له، ولا يبطش ولا يمشي إلا في طاعة اللّه عزَّ وجلَّ مستعيناً باللّه في ذلك كله‏.‏ ولهذا جاء في بعض رواية الحديث في غير الصحيح‏:‏ ‏(‏فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي‏)‏، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون‏}‏، كقوله تعالى في الآية الأُخرى‏:‏ ‏{‏قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون‏}‏، ثم نبّه تعالى عباده إلى النظر إلى الطير المسخر بين السماء والأرض كيف جعله يطير بجناحين بين السماء والأرض في جو السماء ما يملكه هناك إلا اللّه بقدرته تعالى التي جعل فيها قوى تفعل ذلك، وسخر الهواء يحملها، وبسير الطير كذلك كما قال تعالى في سورة الملك‏:‏ ‏{‏ألم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير‏}‏، وقال ههنا‏:‏ ‏{‏إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏80 ‏:‏ 83‏)‏

‏{‏ والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين ‏.‏ والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون ‏.‏ فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين ‏.‏ يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون ‏}‏

يذكر تبارك وتعالى تمام نعمه على عبيده بما جعل لهم من البيوت التي هي سكن لهم يأوون إليها، ويستترون بها وينتفعون بها بسائر وجوه الانتفاع‏.‏ وجعل لهم أيضاً من جلود الأنعام بيوتاً، أي من الأدم يستخفون حملها في أسفارهم ليضربوها لهم في إقامتهم في السفر والحضر‏.‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها‏}‏ أي الغنم، ‏{‏وأوبارها‏}‏ أي الإبل، ‏{‏وأشعارها‏}‏ أي المعز، والضمير عائد على الأنعام ‏{‏أثاثا‏}‏ أي تتخذون منه أثاثاً، وهو المال وقيل‏:‏ المتاع، وقيل‏:‏ الثياب، والصحيح أعم من هذا كله فإنه يتخذ من الأثاث البسط والثياب وغير ذلك، ويتخذ مالاً وتجارة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إلى حين‏}‏ أي إلى أجل مسمى ووقت معلوم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏والله جعل لكم مما خلق ظلالا‏}‏، قال قتادة يعني الشجر ‏{‏وجعل لكم من الجبال أكنانا‏}‏ أي حصوناً ومعاقل كما ‏{‏جعل لكم سرابيل تقيكم الحر‏}‏ وهي الثياب من القطن والكتان والصوف ‏{‏وسرابيل تقيكم بأسكم‏}‏ كالدروع من الحديث المصفح والزرد وغير ذلك، ‏{‏كذلك يتم نعمته عليكم‏}‏ أي هكذا يجعل لكم ما تستعينون به على أمركم وما تحتاجون إليه ليكون عوناً لكم على طاعته وعبادته، ‏{‏لعلكم تسلمون‏}‏ أي من الإسلام، وقوله‏:‏ ‏{‏فإن تولوا‏}‏ أي بعد هذا البيان وهذا الامتنان فلا عليك منهم، ‏{‏فإنما عليك البلاغ المبين‏}‏ وقد أديته إليهم، ‏{‏يعرفون نعمة اللّه ثم ينكرونها‏}‏ أي يعرفون أن اللّه تعالى هو المسدي إليهم ذلك وهو المتفضل به عليهم، ومع هذا ينكرون ذلك ويعبدون معه غيره ويسندون النصر والرزق إلى غيره ‏{‏وأكثرهم الكافرون‏}‏، عن مجاهد أن أعرابياً أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فسأله فقرأ عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏{‏واللّه جعل لكم من بيوتكم سكنا‏}‏ فقال الأعرابي‏:‏ نعم، قال‏:‏ ‏{‏وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا‏}‏‏.‏ الآية، قال الأعرابي‏:‏ نعم، ثم قرأ عليه كل ذلك، يقول الأعرابي‏:‏ نعم، حتى بلغ‏:‏ ‏{‏كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون‏}‏ فولَّى الأعرابي، فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏يعرفون نعمة اللّه ثم ينكرونها‏}‏ ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم‏"‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏84 ‏:‏ 88‏)‏

‏{‏ ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون ‏.‏ وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون ‏.‏ وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون ‏.‏ وألقوا إلى الله يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون ‏.‏ الذين كفروا وصدوا عن سبيل اللّه زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون ‏}‏ يخبر تعالى عن شأن المشركين يوم معادهم في الدار الآخرة، وأنه يبعث من كل أمة شهيداً وهو نبيها، يشهد عليها بما أجابته فيما بلغها عن اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ثم لا يؤذن للذين كفروا‏}‏ أي في الاعتذار لأنهم يعلمون بطلانه وكذبه كقوله‏:‏ ‏{‏هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون‏}‏، فلهذا قال‏:‏ ‏{‏ولا هم يستعتبون * وإذا رأى الذين ظلموا‏}‏ أي الذين أشركوا ‏{‏العذاب فلا يخفف عنهم‏}‏ أي لا يفتر عنهم ساعة واحدة ‏{‏ولا هم ينظرون‏}‏ أي لا يؤخر عنهم، بل يأخذهم سريعاً من الموقف بلا حساب، ثم أخبر تعالى عن تبري آلهتهم منهم أحوج ما يكونون إليها فقال‏:‏ ‏{‏وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم‏}‏ أي الذين كانوا يعبدونها في الدنيا ‏{‏قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا

من دونك * فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون‏}‏ أي قالت لهم الآلهة كذبتم ما نحن أمرناكم بعبادتنا كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن أضل ممن يدعو من دون اللّه من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وألقوا إلى اللّه يومئذ السلم‏}‏ قال‏:‏ قتادة وعكرمة‏:‏ ذلوا واستسلموا يومئذ، أي استسلموا للّه جميعهم، فلا أحد ألا سامع مطيع، وكقوله‏:‏ ‏{‏أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا‏}‏ أي ما أسمعهم وما أبصرهم يومئذ، وقال‏:‏ ‏{‏ولو ترى إذا المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا‏}‏ الآية، وقال‏:‏ ‏{‏وعنت الوجوه للحي القيوم‏}‏ أي خضعت وذلت واستكانت وأنابت واستسلمت‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وألقوا إلى اللّه يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون‏}‏ أي ذهب واضمحل ما كانوا يعبدونه افتراء على اللّه فلا ناصر لهم ولا معين ولا مجير، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏الذين كفروا وصدوا عن سبيل اللّه زدناهم عذابا‏}‏ الآية، أي عذاباً على كفرهم وعذاباً على صدهم الناس عن اتباع الحق، وهذا دليل على تفاوت الكفار في عذابهم كما يتفاوت المؤمنون في منازلهم في الجنة ودرجاتهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏89‏)‏

‏{‏ ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين ‏}‏

يقول تعالى مخاطباً عبده ورسوله محمداً صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏{‏ويوم نبعث في كل أمة

شهيداً عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء‏}‏ يعني أمتك، أي اذكر ذلك اليوم وهوله وما منحك اللّه فيه من الشرف العظيم والمقام الرفيع، وهذه الآية شبيهة بقوله‏:‏ ‏{‏فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء‏}‏ قال ابن مسعود‏:‏ قد بين لنا في هذا القرآن كل علم وكل شيء، وقال مجاهد‏:‏ كل حلال وكل حرام‏.‏ وقول ابن مسعود أعم وأشمل، فإن القرآن اشتمل على كل علم نافع من خبر ما سبق، وعلم ما سيأتي، وكل حلال وحرام، وما الناس إليه محتاجون في أمر دنياهم ودينهم ومعاشهم ومعادهم، ‏{‏وهدى‏}‏ أي للقلوب، ‏{‏ورحمة وبشرى للمسلمين‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏90‏)‏

‏{‏ إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ‏}‏

يخبر تعالى أنه يأمر عباده بالعدل وهو القسط، ويندب إلى الإحسان كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على اللّه‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له‏}‏ إلى غير ذلك من الآيات الدالة على شرعية العدل والندب إلى الفضل‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏إن اللّه يأمر بالعدل‏}‏ قال‏:‏ شهادة أن لا إله إلا اللّه، وقال سفيان ابن عيينة‏:‏ العدل في هذا الموضع هو استواء السريرة والعلانية من كل عامل للّه عملاً، والإحسان أن تكون سريرته أحسن من علانيته، وقوله‏:‏ ‏{‏وإيتاء ذي القربى‏}‏ أي يأمر بصلة الأرحام، كما قال‏:‏ ‏{‏وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وينهى عن الفحشاء والمنكر‏}‏، فالفواحش المحرمات والمنكرات ما ظهر منها من فاعلها؛ ولهذا قال في الموضع الآخر‏:‏ ‏{‏قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن‏}‏، وأما البغي فهو العدوان على الناس‏.‏ وقد جاء في الحديث‏:‏ ‏(‏ما من ذنب أجدر أن يعجل اللّه عقوبته في الدنيا مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏يعظكم‏}‏ أي يأمركم بما يأمركم به من الخير وينهاكم عما ينهاكم عنه من الشر ‏{‏لعلكم تذكرون‏}‏‏.‏ وقال الشعبي، عن ابن مسعود يقول‏:‏ إن أجمع آية في القرآن في سورة النحل‏:‏ ‏{‏إن اللّه يأمر بالعدل والإحسان‏}‏ الآية ‏"‏أخرجه ابن جرير الطبري‏"‏، وقال قتادة‏:‏ ليس من خلق حسن كان أهل الجاهلية يعملون به ويستحسنونه إلا أمر اللّه به، وليس من خلق سيء كانوا يتعايرونه بينهم إلا نهى اللّه عنه وقدم فيه، وإنما نهى عن سفاسف الأخلاق ومذامها، وفي الحديث‏:‏ ‏(‏إن اللّه يحب معالي الأخلاق ويكره سَفْسَافها‏)‏ وقال الحافظ أبو يعلى عن علي بن عبد الملك بن عمير عن أبيه قال‏:‏ بلغ أكثم بن صيفي مخرج النبي صلى اللّه عليه وسلم فأراد أن يأتيه فأبى قومه أن يدعوه وقالوا‏:‏ أنت كبيرنا لم تكن لتخف إليه، قال‏:‏ فليأته من يبلغه عني ويبلغني عنه، فانتدب رجلان، فأتيا النبي صلى اللّه عليه وسلم فقالا‏:‏ نحن رسل أكثم بن صيفي، وهو يسألك من أنت وما أنت‏؟‏ فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أما من أنا فأنا محمد بن عبد اللّه، وأما ما أنا فأنا عبد اللّه ورسوله‏(‏، قال، ثم تلا عليهم هذه الآية‏:‏ ‏{‏إن اللّه يأمر

بالعدل والإحسان‏}‏ الآية، قالوا‏:‏ ردد علينا هذا القول، فردد عليهم حتى حفظوه، فأتيا أكثم فقالا‏:‏ أبى أن يرفع نسبه، فسألنا عن نسبه فوجدناه زاكي النسب وسطاً في مضر - أي شريفاً - وقد رمى إلينا بكلمات قد سمعناها، فلما سمعهن أكثم قال‏:‏ إني أراه يأمر بمكارم الأخلاق وينهى عن ملائمها، فكونوا في هذا الأمر رؤوساً ولا تكونوا فيه أذناباً‏.‏ وعن عثمان بن أبي العاص قال‏:‏ كنت عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جالساً إذ شخص بصره فقال‏:‏ ‏(‏أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع من هذه السورة‏:‏ ‏{‏إن اللّه يأمر بالعدل والإحسان‏}‏ ‏"‏أخرجه الإمام أحمد في المسند‏"‏‏)‏ الآية‏.‏

 الآية رقم ‏(‏91 ‏:‏ 92‏)‏

‏{‏ وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون ‏.‏ ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون ‏}‏

هذا مما يأمر اللّه تعالى به وهو الوفاء بالعهود والمواثيق والمحافظة على الأيمان المؤكدة، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها‏}‏، ولا تعارض بين هذا وبين قوله‏:‏ ‏{‏ولا تجعلوا اللّه عرضة لأيمانكم‏}‏ الآية، وبين قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم‏}‏ أي لا تتركوها بلا كفارة، وبين قوله عليه السلام فيما ثبت عنه في الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام قال‏:‏ ‏(‏إني واللّه - إن شاء اللّه - لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها، وفي رواية‏:‏ وكفرت عن يميني‏)‏ لا تعارض بين هذا كله ولا بين الآية المذكورة ههنا وهي قوله‏:‏ ‏{‏ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها‏}‏، لأن هذه الأيمان المراد بها الداخلة في العهود والمواثيق، لا الأيمان التي هي واردة على حث أو منع؛ ولهذا قال مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها‏}‏ يعني الحلف، أي حلف الجاهلية‏.‏ ويؤيده ما رواه الإمام أحمد عن جبير بن مطعم قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية فإنه لا يزيد الإسلام إلا شدة‏)‏ ‏"‏رواه أحمد ومسلم عن جبير بن مطعم مرفوعاً‏"‏، ومعناه أن الإسلام لا يحتاج معه إلى الحلف الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه، فإن في التمسك بالإسلام كفاية عما كانوا فيه‏.‏ وقال ابن جرير، عن بريدة في قوله‏:‏ ‏{‏وأوفوا بعهد اللّه إذا عاهدتم‏}‏ قال‏:‏ نزلت في بيعة النبي صلى اللّه عليه وسلم، كان من أسلم بايع النبي صلى اللّه عليه وسلم على الإسلام، فقال‏:‏ ‏{‏وأوفوا بعهد اللّه إذا عاهدتم‏}‏ هذه البيعة التي بايعتم على الإسلام، ‏{‏ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها‏}‏ لا يحملنكم قلة محمد وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي بايعتم على الإسلام‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إن اللّه يعلم ما تفعلون‏}‏ تهديد ووعيد لمن نقض الأيمان بعد توكيدها‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا‏}‏‏.‏ قال السدي‏:‏ هذه امرأة خرقاء كانت بمكة كلما غزلت شيئاً نقضته بعد إبرامه، وقال مجاهد وقتادة هذا مثل لمن نقض عهده بعد توكيده، وهذا القول أرحج وأظهر، سواء كان بمكة امرأة تنقض غزلها أم لا، وقوله‏:‏ ‏{‏أنكاثا‏}‏ أي أنقاضاً، ‏{‏تتخذون أيمانكم دخلا بينكم‏}‏ أي خديعة ومكراً ‏{‏أن تكون أمة هي أربى من أمة‏}‏ أي تحلفون للناس إذا كانوا أكثر منكم ليطمئنوا إليكم، فإذا أمكنكم الغدر بهم غدرتم، فنهى اللّه عن ذلك لينبه بالأدنى على الأعلى، قال ابن عباس ‏{‏أن تكون أمة هي أربى من أمة‏}‏‏:‏ أي أكثر، وقال مجاهد‏:‏ كانوا يحالفون الحلفاء فيجدون أكثر منهم وأعز، فينقضون حلف هؤلاء ويحالفون أولئك الذين هم أكثر وأعز فنهوا عن ذلك، وقوله‏:‏ ‏{‏إنما يبلوكم اللّه به‏}‏ قال ابن جرير‏:‏ أي بأمره إياكم بالوفاء بالعهد ‏{‏وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون‏}‏ فيجازي كل عامل بعمله من خير وشر‏.‏

 الآية رقم ‏(‏93 ‏:‏ 96‏)‏

‏{‏ ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملون ‏.‏ ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم ‏.‏ ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إنما عند الله خير لكم إن كنتم تعلمون ‏.‏ ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ‏}‏

يقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ولو شاء اللّه لجعلكم‏}‏ أيها الناس ‏{‏أمة واحدة‏}‏ أي لوفق بينكم ولما جعل اختلافاً ولا تباغض ولا شحناء، ‏{‏ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء‏}‏ ثم يسألكم يوم القيامة عن جميع أعمالكم فيجازيكم عليها على الفتيل والنقير والقطمير؛ ثم حذر تعالى عباده عن اتخاذ الأيمان دخلاً‏:‏ أي خديعة ومكراً لئلا تزل قدم ‏{‏بعد ثبوتها‏}‏ مثلٌ لمن كان على الاستقامة فحاد عنها، وزل عن طريق الهدى بسبب الأيمان الحانثة، المشتملة على الصد عن سبيل اللّه، لأن الكافر إذا رأى أن المؤمن قد عاهده ثم غدر به لم يبق له وثوق بالدين، فيصد بسببه عن الدخول في الإسلام، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل اللّه ولكم عذاب عظيم‏}‏، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تشتروا بعهد اللّه ثمنا قليلا‏}‏ أي لا تعتاضوا عن الأيمان باللّه عرض الحياة الدنيا وزينتها، فإنها قليلة ولو حيزت لابن آدم الدنيا بحذافيرها لكان ما عند اللّه هو خير له، أي جزاء اللّه وثوابه خير لمن رجاه وآمن به، وطلبه وحفظ عهده رجاء موعوده، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏إن كنتم تعلمون * ما عندكم ينفد‏}‏ أي يفرغ وينقضي فإنه إلى أجل معدود، ‏{‏وما عند اللّه باق‏}‏ أي وثوابه لكم في الجنة باق لا انقطاع ولا نفاذ له، فإنه دائم لا يحول ولا يزول ‏{‏ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون‏}‏ قسم من الرب تعالى مؤكد باللام أنه يجازي الصابرين بأحسن أعمالهم أي ويتجاوز عن سيئها‏.‏

 الآية رقم ‏(‏97‏)‏

‏{‏ من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ‏}‏

هذا وعد من اللّه تعالى لمن عمل صالحاً، وهو العمل المتابع لكتاب اللّه وسنة نبيّه صلى اللّه عليه وسلم، من ذكر أو أنثى من بني آدم وقلبه مؤمن باللّه ورسوله، بأن يحييه اللّه حياة طيبة في الدنيا، وأن يجزيه بأحسن ما عمله في الدار الآخرة، والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت، وقد روي عن ابن عباس وجماعة أنهم فسروها بالرزق الحلال الطيب‏.‏ وعن علي ابن أبي طالب رضي اللّه عنه فسرها بالقناعة‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ إنها هي السعادة، وقال الحسن ومجاهد وقتادة‏:‏ لا يطيب لأحد حياة إلا في الجنة، وقال الضحاك‏:‏ هي الرزق الحلال والعبادة في الدنيا‏.‏ والصحيح أن الحياة الطيبة تشمل هذا كله، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن عبد اللّه بن عمر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏قد أفلح من أسلم، ورزق كفافاً، وقنعه اللّه بما آتاه‏)‏ وفي رواية‏:‏ ‏(‏قد أفلح من هدي للإسلام وكان عيشه كفافاً وقنع به‏)‏ ‏"‏أخرجه أحمد والترمذي والنسائي‏"‏‏.‏ وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يزيد، حدثنا همام عن يحيى عن قتادة عن أنَس بن مالك قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن اللّه لا يظلم المؤمن حسنة يعطى بها في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يعطى بها خيراً‏)‏ ‏"‏أخرجه أحمد ومسلم في صحيحه‏"‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏98 ‏:‏ 100‏)‏

‏{‏ فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ‏.‏ إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ‏.‏ إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون ‏}‏

هذا أمر من اللّه تعالى لعباده على لسان نبيّه صلى اللّه عليه وسلم، إذا أرادوا قراءة القرآن أن يستعيذوا باللّه من الشيطان الرجيم، وهذا أمر ندب ليس بواجب، حكى الإجماع على ذلك أبو جعفر بن جرير وغيره من الأئمة‏.‏ وقد قدمنا الأحاديث الواردة في الاستعاذة مبسوطة في أول التفسير وللّه الحمد والمنة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون‏}‏ قال الثوري‏:‏ ليس له عليهم سلطان أن يوقعهم في ذنب لا يتوبون منه، وقال آخرون‏:‏ معناه لا حجة له عليهم، وقال آخرون كقوله‏:‏ ‏{‏إلا عبادك منهم المخلصين‏}‏، ‏{‏إنما سلطانه على الذين يتولونه‏}‏‏.‏ قال مجاهد‏:‏ يطيعونه، وقال آخرون‏:‏ اتخذوه ولياً من دون اللّه ‏{‏والذين هم به مشركون‏}‏، أي أشركوا في عبادة اللّه، ويحتمل أن تكون الباء سببية أي صاروا بسبب طاعتهم للشيطان مشركين باللّه تعالى‏.‏

 الآية رقم ‏(‏101 ‏:‏ 102‏)‏

‏{‏ وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون ‏.‏ قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين ‏}‏

يخبر تعالى عن ضعف عقول المشركين وقلة ثباتهم وإيقانهم وأنه لا يتصور منهم الإيمان، وقد كتب عليهم الشقاوة وذلك أنهم إذا رأوا تغير الأحكام ناسخها بمنسوخها قالوا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏{‏إنما أنت مفتر‏}‏ أي كذاب، وإنما هو الرب تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏وإذا بدلنا آية مكان آية‏}‏‏:‏ أي ورفعناها وأثبتنا غيرها‏.‏ وقال قتادة‏:‏ هو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما ننسخ من آية أو ننسها‏}‏ الآية، فقال تعالى مجيباً لهم‏:‏ ‏{‏قل نزله روح القدس‏}‏ أي جبريل ‏{‏من ربك بالحق‏}‏ أي بالصدق والعدل، ‏{‏ليثبت الذين آمنوا‏}‏ فيصدقوا بما أنزل أولاً وثانياً وتخبت له قلوبهم، ‏{‏وهدى وبشرى للمسلمين‏}‏ أي وجعله هادياً وبشارة للمسلمين الذين آمنوا باللّه ورسله‏.‏

 الآية رقم ‏(‏103‏)‏

‏{‏ ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين ‏}‏

يقول تعالى مخبراً عن المشركين ما كانوا يقولونه من الكذب والافتراء والبهت أن محمداً إنما يعلمه هذا الذي يتلوه علينا من القرآن بشر، ويشيرون إلى رجل أعجمي كان بين أظهرهم، غلام لبعض بطون قريش، وكان بياعاً يبيع عند الصفا، وربما كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يجلس إليه ويكلمه بعض الشيء، وذاك كان أعجمي اللسان لا يعرف العربية، فلهذا قال اللّه تعالى راداً عليهم في افترائهم ذلك‏:‏ ‏{‏لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين‏}‏ أي القرآن، أي فكيف يتعلم من جاء بهذا القرآن في فصاحته وبلاغته ومعانيه التامة الشاملة التي هي أكمل من معاني كل كتاب نزل على بني إسرائيل، كيف يتعلم من رجل أعجمي‏؟‏ لا يقول هذا من له أدنى مسكة من العقل‏.‏ قال محمد بن إسحاق‏:‏ كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - فيما بلغني - كثيراً ما يجلس عند المروة إلى غلام نصراني يقال له جبر عبد لبعض بني الحضرمي، فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين‏}‏‏.‏ وعن عكرمة وقتادة كان اسمه يعيش ، وقال ابن جرير، عن ابن عباس قال‏:‏ كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعلم قيناً بمكة، وكان اسمه بلعام، وكان أعجمي اللسان، وكان المشركون يرون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يدخل عليه ويخرج من عنده، فقالوا‏:‏ إنما يعلمه بلعام، فأنزل اللّه هذه الآية‏:‏ ‏{‏ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏104 ‏:‏ 105‏)‏

‏{‏ إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ولهم عذاب أليم ‏.‏ إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون ‏}‏

يخبر تعالى أنه لا يهدي من أعرض عن ذكره، وتغافل عما أنزله على رسوله صلى اللّه

عليه وسلم ولم يكن له قصد إلى الإيمان بما جاء من عند اللّه، فهذا الجنس من الناس لا يهديهم اللّه إلى الإيمان بآياته، وما أرسل به رسله في الدنيا ولهم عذاب أليم موجع في الآخرة، ثم أخبر تعالى أن رسوله صلى اللّه عليه وسلم ليس بمفتر ولا كذاب لأنه إنما يفتري الكذب على اللّه وعلى رسوله صلى اللّه عليه وسلم شرار الخلق ‏{‏الذين لا يؤمنون بآيات اللّه‏}‏ من الكفرة والملحدين المعروفين بالكذب عند الناس، والرسول محمد صلى اللّه عليه وسلم كان أصدق الناس، وأبرهم وأكملهم علماً وعملاً، وإيماناً وإيقاناً، معروفاً بالصدق في قومه لا يشك في ذلك أحد منهم، بحيث لا يدعى بينهم إلا بالأمين محمد؛ ولهذا قال هرقل ملك الروم، لأبي سفيان‏:‏ فما كان ليدع الكذب على الناس ويذهب فيكذب على اللّه عزَّ وجلَّ ‏.‏

 الآية رقم ‏(‏106 ‏:‏ 109‏)‏

‏{‏ من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ‏.‏ ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين ‏.‏ أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون ‏.‏ لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون

‏}‏

أخبر تعالى عمن كفر به بعد الإيمان والتبصر وشرح صدره بالكفر، واطمأن به، أنه قد غضب عليه لعلمهم بالإيمان ثم عدولهم عنه، وأن لهم عذاباً عظيماً في الدار الآخرة، لأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة، فأقدموا على ما أقدموا عليه من الردة لأجل الدنيا، ولم يهد اللّه قلوبهم ويثبتهم على الدين الحق، فطبع على قلوبهم، فهم لا يعقلون بها شيئاً ينفعهم، وختم على سمعهم وأبصارهم فلا ينتفعون بها، فهم غافلون عما يراد بهم، ‏{‏لا جرم‏}‏ أي لا بد ولا عجب أن من هذه صفته، ‏{‏أنهم في الآخرة هم الخاسرون‏}‏ أي الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة - وأما قوله‏:‏ ‏{‏إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان‏}‏ فهو استثناء ممن كفر بلسانه ووافق المشركين بلفظه مكرهاً لما ناله من ضرب وأذى وقلبه يأبى ما يقول، وهو مطمئن باللإيمان باللّه ورسوله‏.‏ وقد روي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر حين عذبه المشركون حتى يكفر بمحمد صلى اللّه عليه وسلم، فوافقهم على ذلك مكرهاً، وجاء معتذراً إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فأنزل اللّه هذه الأية‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه، حتى قاربهم في بعض ما أرادوا، فشكا ذلك إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم، فقال النبي صلى اللّه

عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كيف تجد قلبك‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ مطمئناً بالإيمان، قال النبي صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن عادوا فعد‏)‏، وفيه أنه سب النبي صلى اللّه عليه وسلم، وذكر آلهتهم بخير، فشكا ذلك إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏كيف تجد قلبك‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ مطمئناً بالإيمان، فقال‏:‏ ‏(‏إن عادوا فعد‏)‏، وفي ذلك أنزل اللّه‏:‏ ‏{‏إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان‏}‏، ولهذا اتفق العلماء على أن المكره على الكفر يجوز له أن يوالي إبقاء لمهجته، ويجوز له أن يأبى كما كان بلال رضي اللّه عنه يأبى عليهم ذلك وهم يفعلون به الأفاعيل، حتى إنهم ليضعون الصخرة العظيمة على صدره في شدة الحر ويأمرونه بالشرك باللّه فيأبى عليهم وهو يقول‏:‏ أحد، أحد، ويقول‏:‏ واللّه لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها، رضي اللّه عنه وأرضاه‏.‏ وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري لما قال له مسيلمة الكذاب‏:‏ أتشهد أن محمداً رسول اللّه‏؟‏ فيقول‏:‏ نعم، فيقول‏:‏ أتشهد أني رسول اللّه‏؟‏ فيقول‏:‏ لا أسمع، فلم يزل يقطعه إرباً إرباً وهو ثابت على ذلك‏.‏

والأفضل والأولى أن يثبت المسلم على دينه ولو أفضى إلى قتله؛ كما ذكر الحافظ في ترجمة عبد اللّه بن حذافة السهمي أحد الصحابة أنه أسرته الروم فجاءوا به إلى ملكهم فقال له‏:‏ تنصر وأنا أشركك في ملكي وأزوجك ابنتي، فقال له‏:‏ لو أعطتني جميع ما تملك وجميع ما تملكه العرب على أن أرجع عن دين محمد صلى اللّه عليه وسلم طرفة عين ما فعلت، فقال‏:‏ إذاً أقتلك، فقال‏:‏ أنت وذاك، قال‏:‏ فأمر به فصلب، وأمر الرماة فرموه قريباً من يديه ورجليه، وهو يعرض عليه دين النصرانية فيأبى، ثم أمر به فأنزل، ثم أمر بقدر من نحاس، فأحميت وجاء بأسير من المسلمين، فألقاه وهو ينظر، فإذا هو عظام تلوح، وعرض عليه فأبى، فأمر به أن يلقى فيها فرفع في البكرة ليلقى فيها، فبكى، فطمع فيه ودعاه، فقال‏:‏ إني إنما بكيت لأن نفسي إنما هي نفس

واحدة تلقى في هذه القدر الساعة في اللّه، فأحببت أن يكون لي بعدد كل شعرة في جسدي نفس تعذب هذا العذاب في اللّه‏.‏ وفي بعض الروايات‏:‏ أنه سجنه ومنع منه الطعام والشراب أياماً، ثم أرسل إليه بخمر ولحم خنزير، فلم يقربه، ثم استدعاه فقال‏:‏ ما منعك أن تأكل‏؟‏ فقال‏:‏ أما إنه قد حل لي، ولكن لم أكن لأشمتك بي، فقال له الملك‏:‏ فقبّلْ رأسي، وأنا أطلقك، فقال‏:‏ وتطلق معي جميع أسارى المسلمين، قال‏:‏ نعم، فقبّل رأسه، فأطلقه، وأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده، فلما رجع قال عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه‏:‏ حق على كل مسلم أن يقبّل رأس عبد اللّه بن حذافة وأنا أبدأ، فقام فقبل رأسه رضي اللّه عنهما‏.‏

 الآية رقم ‏(‏110 ‏:‏ 111‏)‏

‏{‏ ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ‏.‏ يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون ‏}‏

هؤلاء صنف آخر كانوا مستضعفين بمكة مهانين في قومهم فوافقوهم على الفتنة، إنهم أمكنهم الخلاص بالهجرة فتركوا بلادهم وأهليهم وأموالهم ابتغاء رضوان اللّه وغفرانه، وانتظموا في سلك المؤمنين، وجاهدوا معهم الكافرين وصبروا، فأخبر تعالى أنه من بعدها أي تلك الفعلة وهي الإجابة إلى الفتنة لغفور لهم رحيم بهم يوم معادهم ‏{‏يوم تأتي كل نفس تجادل‏}‏ أي تحاج ‏{‏عن نفسها‏}‏ ليس أحد يحاج عنها لا أب ولا ابن ولا أخ ولا زوجة ‏{‏وتوفى كل نفس ما عملت‏}‏ أي من خير وشر ‏{‏وهم لا يظلمون‏}‏ أي لا ينقص من ثواب الخير، ولا يزاد على ثواب الشر ولا يظلمون نقيراً‏.‏

 الآية رقم ‏(‏112 ‏:‏ 113‏)‏

‏{‏ وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ‏.‏ ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون ‏}‏

هذا مثل أريد به أهل مكة‏؟‏ فإنها كانت آمنة مطمئنة مستقرة يتخطف الناس من حولها، ومن دخلها كان آمناً لا يخاف، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا‏}‏، وهكذا قال ههنا‏:‏ ‏{‏يأتيها رزقها رغدا‏}‏، أي هنيئاً سهلاً، ‏{‏من كل مكان فكفرت بأنعم الله‏}‏ أي جحدت آلاء اللّه عليها وأعظمها بعثة محمد صلى اللّه عليه وسلم إليهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة اللّه كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار‏}‏ ولهذا بدلهم اللّه بحاليهم الأولين خلافهما، فقال‏:‏ ‏{‏فأذاقها اللّه لباس الجوع والخوف‏}‏ أي ألبسها وأذاقها الجوع بعد أن كان يجبى إليها ثمرات كل شيء ويأتيها رزقها رغداً من كل مكان، وذلك أنهم استعصوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وأبوا إلا خلافه، فدعا عليهم بسبع كسبع يوسف، فأصابتهم سنة أذهبت كل شيء لهم، فأكلوا العلهز، وهو وبر يخلط بدمه إذا نحروه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏والخوف‏}‏ وذلك أنهم بدلوا بأمنهم خوفاً من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه، حين هاجروا إلى المدينة من سطوته وسراياه وجيوشه، وجعل كل ما لهم في دمار وسفال، حتى فتحها اللّه على رسوله صلى اللّه عليه وسلم وذلك بسبب صنيعهم وبغيهم وتكذيبهم الرسول صلى اللّه عليه وسلم الذي بعثه اللّه فيهم منهم وامتن عليهم في قوله‏:‏ ‏{‏لقد منّ اللّه على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم‏}‏ الآية‏.‏ وهذا الذي قلناه من أن هذا المثل ضرب لأهل مكة قاله ابن عباس، وإليه ذهب مجاهد وقتادة والزهري رحمهم اللّه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏114 ‏:‏ 117‏)‏

‏{‏ فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون ‏.‏ إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم ‏.‏ ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون ‏.‏ متاع قليل ولهم عذاب أليم ‏}‏

يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بأكل رزقه الحلال الطيب وبشكره على ذلك، فإنه المنعم المتفضل به ابتداء، ثم ذكر تعالى ما حرمه عليهم مما فيه مضرة لهم في دينهم وديناهم من الميتة والدم ولحم الخنزير ‏{‏وما أهل لغير اللّه به‏}‏ أي ذبح على غير اسم اللّه ومع هذا، ‏{‏فمن اضطر إليه‏}‏ أي احتاج من غير بغي ولا عدوان، ‏{‏فإن اللّه غفور رحيم‏}‏‏.‏ وقد تقدم الكلام على مثل هذه الآية في سورة البقرة بما فيه كفاية عن إعادته وللّه الحمد‏.‏ ثم نهى تعالى عن سلوك سبيل المشركين الذين حللوا وحرموا، بمجرد ما وصفوه واصطلحوا عليه وابتدعوه في جاهليتهم، فقال‏:‏ ‏{‏ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على اللّه الكذب‏}‏ ويدخل في هذا كل من ابتدع بدعة ليس فيها مستند شرعي، أو حلل شيئاً مما حرم اللّه أو حرم شيئاً مما أباح اللّه بمجرد رأيه وتشهيه، ثم توعد على ذلك فقال‏:‏ ‏{‏إن الذين يفترون على اللّه الكذب لا يفلحون‏}‏ أي في الدنيا ولا في الآخرة؛ أما في الدنيا فمتاع قليل، وأما في الآخرة فلهم عذاب أليم، كما قال‏:‏ ‏{‏نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏إن الذين يفترون على اللّه الكذب لا يفلحون * متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏118 ‏:‏ 119‏)‏

‏{‏ وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ‏.‏ ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ‏}‏

لما ذكر تعالى أنه إنما حرم علينا الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير اللّه به، ذكر سبحانه وتعالى ما كان حرمه على اليهود في شريعتهم قبل أن ينسخها، وما كانوا فيه من الآصار والتضيق والأغلال والحرج فقال‏:‏ ‏{‏وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل‏}‏ أي في سورة الأنعام، ‏{‏وما ظلمناهم‏}‏ أي فيما ضيقنا عليهم، ‏{‏ولكن كانوا أنفسهم يظلمون‏}‏ أي فاستحقوا ذلك، كقوله‏:‏ ‏{‏فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل اللّه كثيرا‏}‏، ثم أخبر تعالى تكرماً وامتناناً في حق العصاة المؤمنين أن من تاب منهم إليه تاب عليه فقال‏:‏ ‏{‏ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة‏}‏ قال بعض السلف‏:‏ كل من عصى اللّه فهو جاهل ‏{‏ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا‏}‏، أي أقلعوا كما كانوا فيه من المعاصي وأقبلوا على فعل الطاعات، ‏{‏إن ربك من بعدها‏}‏ أي تلك الفعلة والزلة ‏{‏لغفور رحيم‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏120 ‏:‏ 123‏)‏

‏{‏ إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين ‏.‏ شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم ‏.‏ وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين ‏.‏ ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ‏}‏

يمدح تعالى عبده ورسوله وخليله إبراهيم، إمام الحنفاء ووالد الأنبياء، ويبرئه من المشركين ومن اليهوديه والنصرانية فقال‏:‏ ‏{‏إن إبراهيم كان أمة قانتا للّه حنيفا‏}‏، فأما الأمة‏:‏ فهو الإمام الذي يقتدى به، والقانت‏:‏ هو الخاشع المطيع، والحنيف المنحرف قصداً عن الشرك إلى التوحيد، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ولم يك من المشركين‏}‏، قال عبد اللّه بن مسعود‏:‏ الأمة معلم الخير، والقانت المطيع للّه ورسوله‏.‏ وقال ابن عمر‏:‏ الأمة الذي يعلم الناس دينهم‏.‏ وقال مجاهد ‏{‏أمة‏}‏ أي أمة وحده، والقانت‏:‏ المطيع‏.‏ وعنه كان مؤمناً وحده والناس كلهم إذ ذاك كفار، وقال قتادة‏:‏ كان إمام هدى، والقانت‏:‏ المطيع للّه، وقوله‏:‏ ‏{‏شاكرا لأنعمه‏}‏ أي قائماً بشكر نعم اللّه عليه، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإبراهيم الذي وفّى‏}‏ أي قام بجميع ما أمره اللّه تعالى به‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏اجتباه‏}‏ أي اختاره واصطفاه كقوله‏:‏ ‏{‏ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين‏}‏، ثم قال‏:‏ ‏{‏وهداه إلى صراط مستقيم‏}‏ وهو عبادة اللّه وحده لا شريك له على شرع مرضي‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وآتيناه في الدنيا حسنة‏}‏ أي جمعنا له خير الدنيا من جميع ما يحتاج المؤمن إليه في إكمال حياته الطيبة، ‏{‏وإنه في الآخرة لمن الصالحين‏}‏‏.‏ وقال مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏وآتيناه في الدنيا حسنة‏}‏ أي لسان صدق، وقوله‏:‏ ‏{‏ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا‏}‏ أي ومن كماله وعظمته وصحة توحيده وطريقه أنا أوحينا إليك يا خاتم الرسل وسيد الأنبياء ‏{‏أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين‏}‏، كقوله في الأنعام‏:‏ ‏{‏قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم * دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين‏}‏، ثم قال تعالى منكراً على اليهود‏:‏

 الآية رقم ‏(‏124‏)‏

‏{‏ إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ‏}‏

لا شك أن اللّه تعالى شرع في كل ملة يوماً من الأسبوع يجتمع الناس فيه للعبادة، فشرع تعالى لهذه الأمة يوم الجمعة لأنه اليوم السادس الذي أكمل اللّه فيه الخليقة واجتمعت فيه وتمت النعمة على عباده، ويقال إن اللّه تعالى شرع ذلك لبني إسرائيل على لسان موسى، فعدلوا عنه، واختاروا السبت لأنه اليوم الذي لم يخلق فيه الرب شيئاً من المخلوقات الذي كمل خلقها يوم الجمعة، فألزمهم تعالى به في شريعة التوراة، ووصاهم أن يتمسكوا به، وأن يحافظوا عليه مع أمره إياهم بمتابعة محمد صلى اللّه عليه وسلم إذا بعثه وأخذ مواثيقهم وعهودهم على ذلك، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه‏}‏، قال مجاهد‏:‏ اتبعوه وتركوا الجمعة، وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي اللّه عنه، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض اللّه عليهم فاختلفوا فيه، فهدانا اللّه له، فالناس لنا فيه تبع اليهود غداً والنصارى بعد غد‏)‏ ‏"‏هذا لفظ البخاري‏"‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏125‏)‏

‏{‏ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ‏}‏

يقول تعالى آمراً رسوله محمداً صلى اللّه عليه وسلم أن يدعو الخلق إلى اللّه بالحكمة‏.‏ قال ابن جرير‏:‏ وهو ما أنزله عليه من الكتاب والسنّة والموعظة الحسنة، أي بما فيه من الزواجر والوقائع بالناس ذكرهم بها ليحذروا بأس اللّه تعالى، وقوله‏:‏ ‏{‏وجادلهم بالتي هي أحسن‏}‏، أي من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال، فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم‏}‏ الآية، فأمره تعالى بلين الجانب، كما أمر به موسى وهارون عليهما السلام حين بعثهما إلى فرعون في قوله‏:‏ ‏{‏فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى‏}‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله‏}‏ الآية، أي قد علم الشقي منهم والسعيد، وكتب ذلك عنده وفرغ منه فادعهم إلى اللّه، ولا تذهب نفسك على من ضل منهم حسرات، فإنه ليس عليك هداهم إنما أنت نذير، عليك البلاغ وعلينا الحساب، ‏{‏إنك لا

تهدي من أحببت‏}‏، ‏{‏ليس عليك هداهم ولكن اللّه يهدي من يشاء‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏126 ‏:‏ 128‏)‏

‏{‏ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ‏.‏ واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون ‏.‏ إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ‏}‏

يأمر تعالى بالعدل في القصاص والمماثلة في استيفاء الحق، قال ابن سيرين‏:‏ إن أخذ منكم رجل شيئاً فخذوا مثله، وكذا قال مجاهد والحسن البصري واختاره ابن جرير، وقال ابن زيد‏:‏ كانوا قد امروا بالصفح عن المشركين فأسلم رجال ذوو منعة، فقالوا‏:‏ يا رسول اللّه، لو اذن اللّه لنا لانتصرنا من هؤلاء الكلاب، فنزلت هذه الآية ثم نسخ ذلك بالجهاد، قال عطاء بن يسار‏:‏ نزلت سورة النحل كلها بمكة، وهي مكية إلا ثلاث آيات من آخرها، نزلت بالمدينة، بعد أحد حين قتل حمزة رضي اللّه عنه ومثل به، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لئن أظهرني اللّه عليهم لأمثلن بثلاثين رجلاً منهم، فلما سمع المسلمون ذلك قالوا‏:‏ واللّه لئن ظهرنا عليهم لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد قط فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به‏}‏ إلى آخر السورة، وقال الحافظ أبو بكر البزار، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقف على حمزة بن عبد المطلب رضي اللّه عنه حين استشهد، فنظر

إلى منظر لم ينظر إلى منظر أوجع للقلب منه، أو قال لقلبه، فنظر إليه وقد مُثّل به، فقال‏:‏ ‏(‏رحمة اللّه عليك، إن كنت ما علمتك إلى وصولاً للرحم، فعولاً للخيرات، واللّه لولا حزن من بعدك عليك لسرني أن أتركك حتى يحشرك اللّه من بطون السباع - أو كلمة نحوها - أما واللّه لأمثلن بسبعين كمثلتك‏)‏، فنزل جبريل على محمد صلى اللّه عليه وسلم بهذه السورة وقرأ‏:‏ ‏{‏وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به‏}‏ إلى آخر الآية، فكفر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعني عن

يمينه وأمسك عن ذلك ‏"‏قال ابن كثير في إسناده ضعف‏"‏‏.‏ وهذه الآية الكريمة لها أمثال في القرآن، فإنها مشتملة على مشروعية العدل والندب إلى الفضل، كما في قوله‏:‏ ‏{‏وجزاء سيئة سيئة مثلها‏}‏، ثم قال‏:‏ ‏{‏فمن عفا وأصلح فأجره على اللّه‏}‏، الآية‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏والجروح قصاص‏}‏، ثم قال‏:‏ ‏{‏فمن تصدق به فهو كفارة له‏}‏، وقال في هذه الآية‏:‏ ‏{‏وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به‏}‏، ثم قال‏:‏ ‏{‏ولئن صبرتم لهو خير للصابرين‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واصبر وما صبرك إلا باللّه‏}‏ تأكيد للأمر بالصبر، وإخبار بأن ذلك لا ينال إلا بمشيئة اللّه وإعانته، وحوله وقوته، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تحزن عليهم‏}‏، أي على من خالفك فإن اللّه قدر ذلك، ‏{‏ولا تك في ضيق‏}‏ أي غم، ‏{‏مما يمكرون‏}‏ أي مما يجهدون أنفسهم في عداوتك وإيصال الشر إليك، فإن اللّه كافيك وناصرك ومؤيدك ومظهرك ومظفرك بهم، وقوله‏:‏ ‏{‏إن اللّه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون‏}‏، أي معهم بتأييده ونصره ومعونته وهديه وسعيه‏.‏